تحقيقات

العرس التلمساني أغلى وأرقى عرس في الجزائر

تلمسان التي تلقب بـ «لؤلؤة المغرب الكبير»، مدينة في شمال غرب الجزائر، ثاني مدينة من حيث الأهمية في الجهة الغربية، فخورة بماضيها المجيد والمزدهر،

ذات المعالم الأندلسية المتأصلة في المغرب الإسلامي الكبير، وصاحبة المواقع الطبيعية الخلابة، فهي «مدينة الفن والتاريخ».

وبكثرة ما فيها من المباني الفنية الرائعة الخالدة، وبماضيها الفكري والثقافي والسياسي المجيد فقد تضافرت جهود الطبيعة السخية الحسناء وجهود الإنسان المبدع لتكوين مدينة متميزة راقية ممتعة للفكر وللقلب والروح معا،

مما جعلها تبلغ أرفع مكانة في الجمال واستحقت بفضل ذلك كله أن تدعى «جوهرة المغرب الكبير» و«غرناطة إفريقيا»، وأيضا «مدينة الغرب» مقارنة مع مكانة المدينة المنورة في العالم الإسلامي.

 

من بين التقاليد الراقية والعريقة في هذه المدينة نجد أن مراسم الزواج وطقوسه من أفخم وأجمل ما يملكه الثرات الجزائري الأصيل.

العروس التلمسانية تعتبر أغلى عروس في الجزائر، والعرس التلمساني يعد أفخم وأفخر الأعراس التقليدية في البلاد، تجتمع فيه منذ عقد النية عليه، كل مظاهر الأبهة والفخامة،

ولعل الأمر طبيعي في مدينة كانت على مدار العصور والأزمنة، مدينة للحضارة، والمدنية، وعاصمة للبلاد، ومركز حكامها وسلاطينها، وبالتالي أساس كل المبادلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتجارية،

وقد لا نبالغ مطلقا إذا ما قلنا إن العرس التلمساني يعيد إلى الأذهان جلسات ألف ليلة وليلة، حيث النساء يتقلدن أغلى المجوهرات، ويلبسن أفخر أنواع الحرير، ويجلسن على نفائس الوسائد.

 

الفتاة التلمسانية لا يسمح لها بأن تتزين قبل زواجها

في يوم زفافها، تكون العروس أجمل ما يمكن أن يتصوره المرء، إذ تعتبر تحفة من الجمال في كل ما تلبسه وفي زينتها وحركاتها وكل مظهرها الأنيق الخلاب.

جرت العادة أن تبدأ العائلات في تحضير جهاز العروس منذ نعومة أظافرها، وذلك لما يطلبه من جهد مالي وخياطة وطرز وانتقاء لأغلى الأقمشة والحلي والأفرشة الصوفية المنسوجة بطريقة تقليدية،

ويكون ذلك حسب معايير معينة من الجودة والجمال.

والفتاة التلمسانية لا يسمح لها بأن تتزين قبل زواجها فلا تضع الماكياج ولا تلبس الجبب التقليدية قبل عرسها ما عدا في المناسبات، عندما تكون صغيرة جدا في السن،

أي قبل بلوغها سن الرشد، مثلا بمناسبة أول يوم تصوم فيه في حياتها أو للقاء قريب عائد من البقاع المقدسة أو في الأعياد وأيضا بمناسبة المولد النبوي الشريف،

بذلك تتعلم الفتاة التلمسانية حب هذا التراث والمحافظة عليه والاعتزاز به.

 

المراسم الأولى للزواج تتضمن الخطوات الأولى للزواج مراسم وإجراءات عديدة وأول خطوة في مراسم عرس الزواج هي طبعًا الخطبة.

 

«النعيت» أو خطبة الفتاة

غالبا ما يكون سن الزواج في تلمسان منخفضا مقارنة بغيره من المدن الجزائرية. في المجتمع التلمساني، عندما تبلغ الشابة الـ ٣٠ سنة تصبح في تعداد العوانس، ولذلك، فإن هناك عادة متوارثة تسمى (النعيت)،

حيث ان تقريباً كل فتاة في تلمسان تخطب منذ صغرها عن طريق وساطة من ينعتها، ويتم وضع اليد عليها، مثلما يقال بين أهالي المدينة،

حيث يذهب والدا الشاب إلى بيت الفتاة ويطلبانها رسميا. وغالبا ما تكون الأولوية لأفراد العائلة من أبناء العم أو الخال. إلا أن المجتمع صار يتساهل الآن مع مسألة زواج التلمسانيات من غير أبناء المدينة.

 

ليلة الحنة أو الملاك

عندما يرحب والدا الفتاة بالفكرة، تبعث لهما من طرف أهل الخاطب صواني الأكل التقليدية المسماة بـ «الطيفور» معبأة بالحنة، والحلوى، والفول السوداني، وقالبين من السكر،

والكل مغطى «بفوطة» و«منديل» من الحرير مع شمعتين وكبش. هذه الحفلة تسمى «الملاك» (وهو ما يعني أن العروس أصبحت في ذمّة العريس وعائلته).

هذا، وتتحدد مسبقًا الشروط المتفق عليها مثل الصداق المطلوب من طرف والدي الفتاة، كما يتم التفاهم على الشروط الأساسية، والثانوية. ولتوثيق هذه الشروط على أسس متينة،

يبرم «عقد الفاتحة» على يد مفتي الحي. وبعد الاتفاق بين الطرفين، تصل مرحلة الإعداد للعرس، حيث عادة ما يتم الزواج بعد عقد الفاتحة.

إنه في ليلة الملاك أو الحنة، يحضر أهل العريس حاملين معهم الحلوى والهدايا، وأيضا السوار الذهبي الذي يجب أن تلبسه أخت العريس للعروس وخاتم الملاك.

 

تبدأ المراسم بتحضير الحلويات الراقية المتنوعة والكسكسي

 

العراضات

بعد عقد القران بقراءة الفاتحة، تبدأ مراسم الاحتفال بالزفاف. المرحلة الأولى تكون عند اقتراب اليوم الموعود بنحو خمسة عشر يوما قبل الزفاف،

حيث تذهب النسوة في زي تقليدي لدعوة العائلة والاقارب إلى حضور العرس.. يكون بذلك الإعلان على بداية التحضير لاحتفالات العرس معلنة عنها زغاريد النساء قبل خروجهن من البيت،

إذ يستقبلن في كل بيت بالعطور المختلفة مثل عطر الورد والمسك وكل ما حضر من أطيب العطور، وذلك تفاؤلا للعروس بالسعادة والطيب في حياتها الجديدة.

وتبدأ المراسم بتحضير الحلويات الراقية المتنوعة والكسكسي، ومختلف الأطعمة التقليدية والفواكه والمشروبات المختلفة.

 

ليلة ما قبل الخروج (الوشي)

المرحلة الثانية وهي ليلة ما قبل الزفاف المسماة بـ «الوشي». تذهب العروس إلى الحمام التقليدي، وتأخذ معها بنات العائلة الموجودة في دار العرس، وتسمى هذه العادة «التشليل».

تقوم مراسم هذه الليلة الأخيرة من حياة العروس في بيتها، حيث قام أهلها بدعوة أقاربها وصديقاتها، ويتم الاحتفاء بها.

في نفس ذلك اليوم أيضا ترسل العروس جهازها إلى منزل زوجها، وهو ما يسمى بـ «الفرش»، تقوم بنقله أقرب المقربات من العائلة، شريطة أن يكن متزوجات حديثات، حيث لا يسمح للعازبات بالذهاب.

يتكون الجهاز من عدد كبير من الأفرشة والألبسة والزرابي والأواني وكل أنواع ملتزمات البيت والحياة الزوجية والاجتماعية، ويكون ذلك من أجمل وأجود وأوفر ما أمكن من الصنع التقليدي والعصري كذلك.

أما العريس، فيلتقي أهله أيضا في بيته ويبدؤون مراسم الاحتفال بالزغاريد والغناء والرقص على أنغام موسيقية أندلسية والمديح بالصلاة على النبي الكريم وآله وصحبه.

 

يجتمع جماعة من الموسيقيين «الطبالين» ويشرعون في مراسم «النوبة» المخصصة للرجال فقط

 

ليلة الزفاف أو ما يسمى بـ «الخروج»

يوم الزفاف، يستقبل أهل العريس العروس في جو بهيج من الطبل والأهازيج التي تبثها فرقة نسوية تسمى بـ «الفقيرات» التي تبقى لتنشط العرس حتى طلوع الفجر.

تجلس العروس فوق الكرسي ويؤتى بسنية دائرية «سنية العكر» وبداخلها خلخال ذهبي وهو سوار يوضع حول الكاحل، قارورة عطر، مرآة،

وعلبة من المساحيق ومغطاة بوشاح من الحرير (العبروق) والذي يستعمل لتغطية وجه العروس حتى وصول زوجها.

تكمن عادة تجميل العروسة بماكياج خفيف يبدو طبيعيا، ثم يوضع على خديها ما يسمى بـ «العكري»، وهي عبارة عن دائرتين صغيرتين ملونتين بأحمر الشفاه وعليها نقاط بيضاء.

وكذلك تزين شفتيها بالأحمر ونقاط بيضاء تعبر عن صفائها وأخلاقها وأنها بكر لم تصل لرجل من قبل، إذ لايسمح لغير العروس البكر أن تجمل بمثل هذه الطريقة.

أما من ناحية الرجال، ففي صباح يوم العرس وفي دار العريس، يدعى كل الشباب من الأصحاب والأحباب للغداء معه ثم يصطحبونه للحمّام التقليدي وبعد ذلك يؤتى بالحلاق إلى المنزل للاعتناء بهندامه.

وقبل غروب الشمس، يجتمع جماعة من الموسيقيين «الطبالين» ويشرعون في مراسم «النوبة» المخصصة للرجال فقط،

حيث يجلس العريس فوق كرسي موضوع وسط الموسيقيين الذين يؤدون على شرفه قطعا موسيقية أندلسية من نوع «الحوزي»،

وكل الشباب المدعوين يجلسون بدورهم لدقائق قليلة، وتمسح وجوههم بالوشاح الذي استعمل لمسح وجه العريس. عندما تنتهي القطعة الموسيقية،

يقوم الفرد منهم ويلقي مبلغا من المال أمام الموسيقيين كل حسب قدرته المالية.

ثم يلبس العريس رداء صوفيا أبيض تقليديا يسمى بـ «البرنوس» ويتوجه مع بعض أهله وأصدقائه إلى مقربة من بيت عروسه ويمتطي حصانا عربيا أصيلا ويتوجه نحو بيت عروسه مرفوقا بالطبول

والزغاريد والطلقات النارية ودوي قرون السيارات والأضواء الوامضة والدراجات النارية التي ترافقه،

إذ تكون كلها من أفخر وأحدث الموديلات، تتقدمها السيارة التي سيمتطيها العروسان من بعد وكلها مزينة بالورود والأشرطة الملونة والبالونات.

تخرج العروس بعد أن تم تحضيرها بإلباسها اللباس التقليدي الفخم المتمثل في القفطان، بكل إكسسواراته وحليه الفخمة، لكن دون تحزيم العروس، لأن ذلك يكون في اليوم السابع للعرس فقط،

حيث تحيط بها صديقاتها وقريباتها المتزوجات حديثا بلباسهن التقليدي أيضا، ويقمن على خدمتها واستقبالها عند خروجها من بيتها وعند دخولها إلى منزل زوجها، شريطة أن يكن سبع عرائس أيضا، يضفين من جمالهن على جمالها.

عندها يخرج بعض أهل العروس أمام بيتها تتقدمهم المتزوجات حديثا بلبسهن للقفطان بالشدة مثل الذي تلبسه العروس نفسها ويذهبن لاستقبال العريس وأهله وسط أهازيج ورقصات ودوي الطبول.

ويرقص العريس فوق حصانه المدرب على ذلك فاتحا ذراعيه بأطراف برنوسه وترافقه طلقات البارود ودق الطبول وتصفيق الحاضرين حتى من الجيران والغرباء. ثم تتقدم والدته لتلبسه «مسكية بالخامسة»،

وهي عبارة عن سلسلة ذهبية سميكة طويلة تحمل قلادة كبيرة وهي عبارة عن يد مفتوحة تسمى بالخامسة وذلك اعتقادا بأنها تحميه من العين حسب مخلفات معتقدات الحضارة البونية التي سادت في شمال افريقيا في العصور القديمة.

تزف العروس إلى بيت زوجها في هذا الجو البهيج مع مجموعة من قريباتها، مرتدية القفطان التقليدي والحايك الحريري أو (الكساء) الذي يغطيها كلها، ويستقبل أهل العريس العروس

في نفس الجو البهيج من الطبل وأهازيج الفقيرات، اللواتي تم استبدالهن حاليا بفرق موسيقية عصرية وذلك إلى ساعات متأخرة من الليل وغالبا ما يكون إلى طلوع الفجر.

مع الملاحظة هنا أن شابا من المقربين المتزوجين حديثا يسهر على خدمة العريس ويسمى بـ «الوزير»، إذ يبقى تحت رهن إشارته وواقفا عند باب غرفته بعد أن يختلي فيها مع عروسه لقضاء ليلة دخلتهما. وطبعا، يسمى العريس بـ «مولاي السلطان».

 

توزع العروس الحلوى والتمر وبعض الفواكه الجافة لتعبر عن سخائها

 

اليوم السابع

و هو آخر يوم تتمتع فيه العروس بوضعيتها المميزة، تلتقي فيه عائلتا العروسين في بيت العريس بعد أن زارتها والدتها صباحا مع قريبة مسنة لتحري أخبار ليلة الدخلة والاستطلاع على حال العروسين،

ثم تغادران العروس بعد قضاء بعض الوقت معها في غرفتها الزوجية لتهنئتها بدخولها إلى عالم النساء المتزوجات وكل ما ينم عن ذلك من تغيير ومسؤولية. وبعد الظهر، يجتمع النسوة حول العروس

التي تلبس مرة أخرى القفطان والشدة لكن هذه المرة تلبس الحزام والفوطة، إذ انها أصبحت ربة بيت، ويعبر الحزام والفوطة التي تحمي لبسها عن أنها أصبحت مستعدة للقيام بواجباتها المنزلية،

وهذه عادة قديمة أمازيغية (بربرية) نجدها في كل الأعراس الجزائرية.

تقف العروس عنذئذ وسط جمع النساء والأطفال وتوزع الحلوى والتمر وبعض الفواكه الجافة لتعبر عن سخائها ولتكون حياتها الزوجية غنية وحلوة. وكل ذلك في جو من الفرح والبهجة والرقصات وأنغام الموسيقى.

ثم تغير لبسها سبع مرات لتظهر بألبسة تقليدية أخرى يمثل كل منها منطقة مختلفة من الجزائر، وذلك للتعبير عن غنى هذه المدينة بتراثها المختلف،

إذ كانت وما زالت هذه المدينة ملتقى الحضارات قد توارث أهالي تلمسان كل مميزاتها وأصبحت جزءا لا يتجزأ من هويتها الثقافية.

وفي المساء، يفترق الأهل والأصدقاء والجيران الذين اكتشفوا وجه وجمال العروس وقدموا الهدايا من مال وذهب وأوان فاخرة ومفارش مطروزة واكسسوارات للبيت،

وتلبس العروس لبسا خاصا بربات البيوت وتبدأ في عملية الانصهار في بيت وعائلة زوجها فيسمح لها أخيرا بأن تتكلم قليلا وتبتسم وترفع عينيها لكن بكل حياء.

وفي يوم الغد، تعود والدة العروس وأقرب النساء إليها للذهاب مرة اخرى إلى الحمام ويكون على حساب أهل العريس وتلبس فيه العروس لباسا حريريا تقليديا يسمى بـ «المنسوج»

ويوضع على رأسها منديل حريري وفوقه بعض قطع الذهب التقليدية مثل ما يسمى بـ «الجبين»، وهو مرصع باللؤلؤ والأحجار الكريمة ويوضع على صدرها عدد هائل من المجوهرات تكون أغلبها من جهازها.

أو ملك والدتها متوارث أما عن جدة.

ويعود الجميع إلى بيت الزوجية لتناول القهوة والشاي مع الحلويات المتنوعة ثم يفترق الجميع. وبذلك تنتهي مراسم الزواج ولا تعود العروس إلى بيت أهلها إلا بعد مدة معينة،

يدعوها فيها أهلها رسميا وبمرافقة زوجها وكل عائلته.

وبذلك تتم المصاهرة الفعلية بين العائلات ويبدأ التحري من طرف الأم عن أمومة قريبة لابنتها التي تلقب في تلمسان بـ «العروس» مادامت حماتها على قيد الحياة،

أي انها تبقى عروس حماتها وليست عروس زوجها بعد أن أصبحت زوجة،

وتنادي حماتها «لالة» لأنها سيدة عليها في بيتها، وتكن لها كل الاحترام والتقدير، وهذا يبين مكانة الأم والأمومة ودور التقاليد في هذا المجتمع المتناسق الأصيل.

 

«أسرتي» في كل مكان

د. بدرة فكيرة

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق