تحقيقات

انطواء الطفل.. صناعة أسرية!

تواجه العديد من الأسر مشكلة في دمج وأقلمة أطفالها خاصة الخجولين مع أقرانهم في المدرسة، الأمر الذي يشكل هاجسًا مقلقًا خاصة للأم في محاولة لكسر العزلة والرهبة التي يعيشها الطفل قبيل وفي بداية العام الدراسي الجديد، إلا أن عددًا من المختصين التقتهم «أسرتي» أكدوا أن تهيئة الطفل للاندماج مع زملاء الدراسة ليست بالمهمة المستحيلة إذا ما اتبعت الطرق التربوية المناسبة..فإلى التفاصيل:

 

نبدأ مع دراسة حديثة للمركز القومي المصري للبحوث الاجتماعية انتهت إلى أن الخجل لدى الأطفال هو أحد العوارض النفسية التي تسبب قلقًا شديدًا للوالدين، فقد يكون الطفل نشيطًا ولبقًا في حضور أفراد أسرته، لكنه يميل إلى الانزواء خجلًا بمجرد دخول شخص غريب إلى المنزل، الأمر الذي يثير مخاوف الوالدين من أن يؤثر خجل الطفل على شخصيته، فيتحول إلى شاب منطوٍ يعجز عن مواجهة الآخرين في المستقبل، وهي ظاهرة مرضية تصيب نحو 36% من الأطفال في مرحلة المراهقة والبلوغ.

وأرجعت الدراسة  الخجل الذي يصيب نسبة كبيرة من الأطفال، خاصة تجاه الغرباء، إلى خطأ في أسلوب التربية الذي يتعامل به الوالدان مع طفلهما، فهناك مشكلة يجب مراعاتها ومعرفة الخلل والسيطرة عليه قبل أن يتحول الطفل الخجول إلى شاب منطوٍ على نفسه ولديه مشكلة في الاندماج في المجتمع المحيط به.

 

د.حمادة مسعود:

على الأسرة أن تزرع الثقة في أطفالها وتهيئهم نفسيًّا لعالم المدرسة

 

إلى ذلك، يتفق الخبير التربوي بجامعتي الأزهر وجازان د.حمادة مسعود محمد مع ما ذهبت إليه الدراسة من مسؤولية الأسرة في كثير من الأحيان عن النشأة الانطوائية للطفل، مشيرًا في هذا الصدد إلى أهمية أن يكون للأسرة دورٌ محوريٌ وفاعلٌ في تهيئة الطفل للالتحاق بالمدرسة كخطوة أولى في حياته، ومن ثم مواجهة الآخرين والتعامل مع مجتمعه بفاعلية وثبات.

ويؤكد على ضرورة أن تقوم الأسرة، وخاصة الأم، بتشويق الطفل إلى المدرسة وتحبيبه فيها، وشرح أهمية دورها في حياته، وتدريبه على الاختلاط بزملائه وإقامة علاقات اجتماعية ودودة معهم، وتدريبه على المشاركة والعطاء وإبداء الرأي، وكيفية مواجهة المشكلات البسيطة، وإيجاد حلول مناسبة لها، وذلك بأن يُدرب الطفل على الانفصال بضع ساعات يوميًا تدريجيًا عن والدته.

ويشير د.مسعود إلى أنه من المفيد للطفل الخجول أن تصطحبه والدته أو والده إلى المدرسة قبل عدة أيام من بداية العام الدراسي ليتعرف على المكان والمدرسة التي سيدرس بها، وأن تبادر الأم بالتحدث عن المدرسة والدراسة بين الحين والآخر قبل أسابيع من بدء الدراسة، حتى تتكون لدى الطفل فكرة عما سيواجهه فيها، وأهمية التفاعل مع أقرانه والاندماج معهم، وتكوين صداقة مع بعضهم، أيضًا من المفيد دعوة أصدقاء طفلك الجدد إلى المنزل للعب معه لمساعدته على الاستقرار والاندماج والتفاعل بسرعة، وإيجاد علاقات دافئة للطفل مع زملائه بخلاف علاقته بأسرته.

وعن دور المدرسة في كسر حاجز الخجل والانطوائية لدى الطفل، يوضح د.مسعود أن المعلم أو المعلمة عليهما أن يحتويا التلميذ ويعاملاه برفق حتى يأنس إليهما ويكتسب ثقتهما، ويجب ألا ينعتا الطفل المنطوي بهذه الصفة، فقط ينصحانه بالتعامل مع أصدقائه دون ضغط أو تعنيف، وإذا لاحظا انطواء الطفل فإنه يجب تبليغ الأهل لمعرفة الديناميكية التي يفضل أن يتم التعامل بها مع الطفل، وتوجيهه إلى المختص الاجتماعي لدعمه.

كما يفضل أن يقوم الاخصائي الاجتماعي بنصح المدرسة بإشراك الطفل في نشاطات المدرسة، وذلك على حسب النشاطات التي يفضلها الطفل، والتي تتنوع بين المسرح من خلال تأديته لدور أي من الشخصيات داخل المسرحية، أو في الإذاعة المدرسية، حيث يعد الوقوف أمام الطلاب عاملًا مؤثرًا في تدعيم ثقة الطالب بنفسه، وكذلك تعد الممارسات الرياضية داخل المدرسة أو خارجها سبيلًا آخر لمعالجة الخجل والانطواء، فالتميز الرياضي يسهم هو الآخر في تدعيم ثقته بنفسه.

 

رُبى محمد:

الوراثة من أسباب الانطواء.. وعلى الأم تحفيز طفلها وكسر مخاوفه

 

الخجل وأسبابه

وتتنوع أسباب الخجل والانطواء بين بيولوجية ونفسية، فتوضح أستاذة علم النفس رُبى محمد أن الوراثة تعد أول العوامل التي تسهم في زيادة الخجل والانطواء عند الأطفال، فإما أن الأب خجولٌ أو الجد أو العم، مشيرة إلى أن التأثيرات الجينية يمكن أن تمتد للجد السابع في شجرة العائلة.

إلى جانب الوراثة، تسهم التربية الخطأ في تحويل طفل سليم معافى إلى خجول خائف، لذا فالسيطرة، والاهتمام الزائد، والتدليل، وعدم ترك الطفل يعتمد على نفسه، تسهم بشكل كبير في تحويله الى طفل خجول.

وتلفت أستاذة علم النفس إلى أنه أحيانًا تؤثر النواقص الجسمانية أو الزيادات أو العادات في تلك الثقة، خاصة إن كانت بارزة وظاهرة مما يجعل الطفل أحيانًا محط سخرية زملائه، ما يصبح حجر عثرة أمام اندماجه في المجتمع،

وإلى جانب تلك الأسباب الخلقية، هناك أيضًا حالات معاناة من السمع أو البصر أو الشلل، بل أحيانًا السمنة يصبح لها أثر قوي في السخرية منه مما يبعده عن أي تجمع.

وتضيف: أحيانًا الرغبة في التحصيل تتحول دون قصد إلى نوع من الانطواء، حيث يجلس الطفل في حجرته لساعات من أجل التفوق الدراسي بإيعاز من والديه أحيانًا أو رغبة شخصية، وشيئًا فشيئًا يتحول إلى الانطوائية، فلا يرغب في التعامل مع أحد باستثناء مراجعة مواده الدراسية، وهو الأمر الذي يلقي بظلاله السيئة على الطفل اجتماعيًا.

وبالنسبة للأطفال حديثي الالتحاق بالمدرسة تنصح بتهيئتهم نفسيًا للذهاب أو العودة إلى المدرسة من خلال الاهتمام بكيفية الاستيقاظ مبكرًا، وذلك عن طريق ممارسة بعض الألعاب الرياضية، وبالتالي تهيئة الطفل نفسيًا للاستيقاظ مبكرًا أيام الدراسة، مع تعديد الصفات الإيجابية للمدرسة، وضرب أمثلة له بأشقائه الكبار أو أقربائه الذين يذهبون إلى المدرسة بسعادة وحرص.

ومن المهم أيضًا تشجيعه على العادات الصحية السليمة، ومنها: الاهتمام بالنظافة الشخصية والعامة من غسيل لليدين، والاهتمام بتنظيف الأسنان، تقليم الأظافر وتنظيف وتهذيب شعر الرأس، واستخدام المناديل أثناء العطس، إضافة إلى الاهتمام بنظافة البيئة المحيطة سواء في البيت أو المدرسة أو خارجها، الأمر الذي يسهم في الحد من انتشار الأوبئة والأمراض.

أيضًا من المهم مشاركة وتفاعل الأبناء مع ما يطرح من مواضيع صحية ومناقشة آبائهم ومعلميهم للتعرف أكثر على المشاكل الصحية المحيطة، وطرق الوقاية منها.

 

د.أحمد عبدالخالق: مجموعة خطوات لإنهاء عزلة طفلك تبدأ بالمقابلات البسيطة

 

معرفة المنطوي

من جانبه، يوضح أستاذ أمراض التخاطب د.أحمد عبد الخالق أن علامات معرفة الطفل الخجول سهلة، حيث إن أولى هذه العلامات هي عدم رغبة الطفل في الوجود وسط تجمعات بشرية، فدائمًا ما يبتعد عن أي تجمع، سواء عائلي أو حتى ترفيهي، وبالطبع تجمعات المدرسة التي يرفضها دائمًا ولا يشعر بالراحة وسطها، إلى جانب الابتعاد عن النظر في العين مباشرة، حيث إن الطفل المنطوي غالبًا ما ينظر باتجاه الأرض وليس في العين، على عكس الأغلبية الطبيعية من البشر.

وإلى جانب هذه العلامات يضيف أن المنطوين غالبًا ما يبتعدون عن الأنشطة الاجتماعية سواء داخل المدرسة عندما يطلب منهم الحديث، أو في البيت عندما يقترح عليهم الأهل الاتصال أو تلقي اتصال هاتفي، كما يعتبر النشاط المفضل لديه هو المكوث في الحجرة لأطول فترة ممكنة بعيدًا عن أقرانه.

ويلفت د.عبد الخالق إلى أن الأسرة من أهم العوامل المؤثرة في وجود طفل منطوٍ، وينصح بمجموعة من الخطوات لإنهاء هذه العزلة منها: تشجيع الطفل على مقابلة أفراد أسرته، وتعد التقنية الملائمة لهذا هي المقابلات التي لا تحتوي على عدد كبير من البشر، من أجل ألا يشعر بوطئة الجموع حوله أو بالتشتيت، وفيما يخص بأصدقاء الدراسة فإن الحل الأمثل هو تشجيعه على المقابلات الشخصية معهم، فمن الممكن استضافة أي صديق له أهل للثقة في المنزل ومحاولة التقريب بينهما من أجل اكتساب صداقات جديدة.

كما يجب أن تمتد الجرأة إلى الحديث مع الغرباء بتشجيع الطفل على الحديث مع موظف الغاز مثلاً، وإعطائه النقود للتعامل بشكل نقدي مع أي بائع، أي الاعتماد عليه في عديد من الأشياء، هذا إلى جانب الحديث مع الأطفال في عيادة الطبيب، وغيرهم، فكلما تجرأ على الحديث مع الغرباء ابتعد عن الانطواء في حياته، أما إذا رغب في الحديث بقوة فإنه يجب على الأهل عدم إرغامه على الحديث، بل نصحه فقط وحثه على إلقاء التحية فقط إن كان التعامل يصعب عليه في هذا الوقت.

ويلفت أستاذ التخاطب إلى أن المنطوي يمتلك دائمًا مخيلة كبيرة، ومن ثم يجب على الأهل تشجيعه على تخيل أن المقابلات واللقاءات الاجتماعية سوف تمر بنجاح وعلى ما يرام، لدعمه على التشجع لهذه اللقاءات، كما يجب لفت انتباهه حول تغيير نبرته الهادئة لأخرى عالية، من أجل أن يكون أكثر فاعلية في التواصل مع الآخرين، ويمتد ذلك إلى طريقة مشيه، وجلسته، وإلى غيرها من التصرفات اللاشعورية التي يمكن ألا يلتفت إليها.

ويشير أيضًا إلى أن الإطراء وسيلة أخرى لتقليل الخجل لدى الطفل، فجمل مثل «يعجبني أسلوبك» و«أنت جيد في هذا» ستسهم في إعادة ثقة الطفل بنفسه والتعامل دون رهبة مع المحيطين.

أيضًا من المهم تفعيل الزيارات العائلية من أجل تعود الطفل على تكوين صداقات والثقة في غيره، إضافة إلى الحديث معه حول ذكرياتهم القديمة في تكوين صداقات، وتشجيعه على الحكي عن أحداث يومه.

 

د.منال زكريا: تجنّبوا الممارسات التربوية الخطأ

 

أخيرًا، تشدد أستاذة علم النفس بكلية الآداب جامعة القاهرة د.منال زكريا على أن الوقاية دومًا خير من العلاج، موضحة أن الممارسات الخطأ في التربية أحيانًا ما تؤدي إلى نتائج سيئة في دعم الانطواء، فالإفراط في التدليل، والإفراط في العنف يساهمان بشكل كبيبر في تواجد الخجل لدى الأطفال، مشيرة إلى أن الطفل لا يولد خجولًا إلا بتأثير الجينات في قليل من الحالات، وما عدا ذلك فإن الأهل لهم الباع الأكبر، خاصة إن كان أحد الوالدين يتسم بتلك الصفة.

لذا فإن معرفة ممارسات التربية السليمة قبل الإنجاب هو عامل مهم من وجهة نظر أستاذة علم النفس في وجود أطفال أصحاء بنسبة مائة بالمائة لا يعانون من أي مشاكل نفسية.

عبد الرحمن

توضح «علياء. ص»، أم لطفل انطوائي، أنها عاشت سنوات في محاولة لإخراج طفلها «عبدالرحمن» من الانطوائية قائلة:

«في البداية اكتشفت تأخره في التحدث مثل بقية إخوته، لم أرد الضغط عليه، لكن كلما مرت الأيام بتنا متأكدين أن هناك خللًا ما، وبعرضه على طبيب مختص أكد أن طفلي يعاني من انطواء يجعله غير مهتم حتى بما نقوله، وهو ما أخرّ الكلام لديه، وأكد الطبيب أن ابني سيتحسن ببطء، وصارحني بأنه ربما يتأخر دراسيًا عن بقية زملائه، لذا سارعنا أنا ووالده بإلحاقه بدورات تدريبية للتخاطب، وفي الوقت نفسه كانت الاخصائية تعلمه كيف يتغلب على انطوائه».

وتابعت: استجابة طفلي لم تكن وقتية، بل الأمر احتاج الى  سنوات من أجل استجابته الكاملة للعلاج، وخلال تلك السنوات كان التحدي الأكبر هو دعمه من جانب العائلة الكبرى، حيث إن أفراد العائلة كانوا يتعاملون معه على أنه يواجه أزمة نفسية، وكنا نرى نظرات الشفقة في أعينهم، وكان ذلك لا يساهم في علاجه، لكن مع الوقت ومع التحسن صارت لديهم فكرة بأنه طبيعي، فقط ما ينقصه قليل من الشجاعة.

أما فيما يخص المدرسة فقالت: اشتركت له في فريق الكرة التابع للمدرسة، وبدأ شيئًا فشيئًا يتجرأ على لمسها، واللعب بها، بل صار يزاحم أصدقاءه عليها وهو ما أكد لي أن العلاج صار مجديًا، ورغم هذا فما يزال حتى اليوم يواجه مشاكل في الدراسة، إذ إن تحصيله ما زال أقل من الطبيعي، ولكن والده يساعده في دراسته، وكذلك إخوته، وهو ما يساعده على التقدم شيئًا فشيئًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق