تحقيقات
أخر الأخبار

زياد.. وأحمد ودلال.. شهود عيان الصانع على كيفان الصمود

بعد‭   ‬30‭ ‬عامًا‭ ‬على‭ ‬الغزو‭ ‬الأليم‭ ‬
زياد.. وأحمد ودلال.. شهود عيان الصانع على كيفان الصمود
كيفان.. قلب الكويت الصامد.. أمام الغزو الصادم

‏30‭ ‬عامًا‭ ‬مرت‭ ‬على‭ ‬ذكرى‭ ‬الغزو‭ ‬الأليمة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمحوها‭ ‬الدهر،‭ ‬وإن‭ ‬حجبها‭ ‬الزمن‭ ‬عن‭ ‬العقل‭ ‬الواعي‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬باقية‭ ‬في‭ ‬اللاوعي،‭ ‬تستحضرها‭ ‬الأحداث‭ ‬من‭ ‬وقت‭ ‬لآخر‭ ‬لدى‭ ‬جميع‭ ‬أبناء‭ ‬الكويت،‭ ‬أما‭ ‬لدى‭ ‬أبناء‭ ‬الشهداء‭ ‬فلها‭ ‬وقعٌ‭ ‬آخر‭.. ‬وقعٌ‭ ‬وإحساسٌ‭ ‬لا‭ ‬يشعر‭ ‬بمرارتهما‭ ‬إلا‭ ‬صاحب‭ ‬المعاناة‭.‬
وكان‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬أسرتي‮»‬‭ ‬لقاء‭ ‬مع‭ ‬الأسير‭ ‬وابن‭ ‬الشهيد‭ ‬زياد‭ ‬فيصل‭ ‬الصانع،‭ ‬والأسير‭ ‬وابن‭ ‬الشهيد‭ ‬أحمد‭ ‬ناصر‭ ‬الصانع،‭ ‬وشقيقته‭ ‬المهندسة‭ ‬دلال‭ ‬ناصر‭ ‬الصانع؛‭ ‬لنتعرف‭ ‬معًا‭ ‬على‭ ‬كفاح‭ ‬أبناء‭ ‬كيفان‭.. ‬المنطقة‭ ‬التي‭ ‬أعطى‭ ‬أبناؤها‭ ‬دروسًا‭ ‬في‭ ‬الوطنية،‭ ‬وأثبت‭ ‬أهلها‭ ‬أنهم‭ ‬قلبٌ‭ ‬واحد‭ ‬ويدٌ‭ ‬واحدة‭. ‬

زياد‭ ‬الصانع‭: ‬‭ ‬الكويت‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬صدمة

في أول يوم من العدوان العراقي الغاشم كانت الكويت كلها في صدمة.. في ذهول، كنا مجتمعين في ∩الشاليه∪، وفي اليوم التالي اتجهنا إلى منزلنا في كيفان.. خيمت حالة من الإنكار: هل صحيح الأمر أم لا؟! الكل كان على الهاتف يسأل.. يتفقد.. يتلقى معلومات غير مؤكدة، تغيرت المدينة تمامًا بين عشية وضحاها.. دمرت الدبابات الثقيلة الطرقات، وانتشر الجيش في كل مكان.

رفض‭ ‬والدي‭ ‬طلب‭ ‬‮«‬صدام‮»‬‭ ‬بتشكيل‭ ‬حكومة‭.. ‬فقرَّر‭ ‬‮«‬صدام‮»‬‭ ‬الانتقام‭ ‬منه‭ ‬وقرَّر‭ ‬والدي‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬بيته‭ ‬رافضًا‭ ‬الدعوات‭ ‬للهروب

بعد أن دخلت جحافل صدام الكويت، لم يكن لوالدي إلا أن يعبر عن نفسه وحقيقته ومعدنه.. أذكر في ذلك اليوم جاء السفير العراقي إلى منزلنا واصطحب والدي إلى مقر السفارة عارضاً عليه الإغراءات،
لتشكيل حكومة تحت الاحتلال، وأن يترأس الوالد هذه الحكومة.. وكان حاضرا في تلك الجلسة على حسن المجيد، شقيق صدام سبعاوي، اللذان أبلغاه أن صدام يطلب منه تشكيل حكومة، وأبلغهم برفضه للأمر.. كان جوابه لهما ولِمَنْ وراءهما: ∩اخرجوا من الكويت، ودعوا الكويتيين يدبروا أمورهم∪، وهنا قرر صدام الانتقام منه، وقرر والدي البقاء في بيته رافضاً الدعوات للهروب.

كان‭ ‬جواب‭ ‬والدي‭ ‬لمن‭ ‬عرضوا‭ ‬عليه‭ ‬تشكيل‭ ‬حكومة‭: ‬‮«‬اخرجوا‭ ‬من‭ ‬الكويت،‭ ‬ودعوا‭ ‬الكويتيين‭ ‬يدبروا‭ ‬أمورهم‮»‬

لم يكن والدي أثناء العدوان يبحث عن دور وطني؛ لأنه كان يرى الكويت للكويتيين وأنها باقية لهم، وقد عمل على ترتيب أمور الناس ومساعدة الصامدين من أهل الكويت.. وفي ديوانه عقد أكثر من لقاء، وجمع مساعدات مالية وعينية للمواطنين.. وشارك مع كوكبة من الوطنيين الأحرار في عدة اجتماعات.

حصار‭ ‬بيتنا
في 21 سبتمبر 1990 حوالي العاشرة صباحاً، حاصر عشرات الجنود العراقيين منزلنا، وانتشروا في كل مكان، وفي ذلك اليوم كان صديق والدي نايف الأزيمع وابنه وابن عمتي أحمد ونحن جميعا نائمين، وحرص والدي على أن يوقظنا ويشعرنا بالأمان قبل أن يقتحموا علينا عنوة الغرف، وأرادوا ان يأخذوا الوالدة وأخواني.. وهنا رفض والدي وقال لهم دون تردد أو خوف: ∩أنا ذاهب معكم ولكن لن تأخذوا أهل بيتي∪.. وما بين أخذ ورد أجروا اتصالاتهم، وفي النهاية قرر الجنود العراقيون أن يأخذوا والدي وصديقه عمي نايف وابنه، كما أخذوني وابن عمتي أحمد في سيارة جيب، وكانت تتبعهم سيارة جيب تعجّ بالمسلحين.

الطريق‭ ‬إلى‭ ‬السجن

لم نكن نعلم إلى أين نحن ذاهبون، وبعد ان اتجهت الحافلة إلى الشمال علمنا أننا في طريقنا إلى العراق، وعندما وصلنا البصرة عصبوا أعيننا واقتادونا إلى سجن المخابرات، حيث فصلوا والدي عنا، وزجوا به في زنزانة مظلمة ضيقة بطول متر وعرض متر، أما نحن فقد قادونا إلى حجرة صغيرة تكدس فيها عدد كبير من الأسرى الكويتيين ومن جنسيات أخرى.

وبعد أربع أو خمس أيام تم نقلنا إلى زنزانة من ضيقها لم تكن تسعنا نحن الأربعة، وكان يفصل بيننا وبين الزنزانة المتواجد بها الوالد ممر.. كان الوالد يشد أزر الآخرين حين يمرون أمام زنزانته في طريقهم ذهاباً وإياباً إلى دورة المياه يومياً.. وعندما كانوا يغلقون الأبواب وينام السجانون، يصل صوته إلى أسماع رفاقه من خلف باب زنزانته المغلقة، مؤكدا لهم: ∩لا يهمكم.. هم المدانون لا نحن، وهم من يجب أن يحاكَموا لا نحن∪.

كان ابن عمتي أحمد يعاني من نوبات ربو حادة، واضطر الحراس لترك باب الزنزانة مفتوحاً خلال الليل، ما أتاح لي أن أخرج إلى الممشى، وأن أتحدث إلى الوالد في زنزانته، ورغم انه كان رابط الجأش متماسكا إلا انه تألم عندما تم نصب كمين في ديوانه لاصطياد كل زواره، فكان يحمل مسؤولية 23 شخصا اعتقلوا لمجرد انهم كانوا متواجدين في منزله في هذا اليوم، منهم من يعرفه واخرون لم يكن الوالد يعرفهم، فالصدفة قادتهم لمنزلنا في ذلك اليوم.
حاولوا مراراً وتكراراً أن يضغطوا على الوالد ليتقدم بكتاب اعتذار أو ما يسمى بـ∪ كتاب استرحام∪، وهو ما قابله الوالد بالرفض التام، كما أن من تم القبض عليهم في منزلنا، رفضوا الضغط على والدي لعمل هذا الكتاب، حتى إن كان الأمر فيه إنفاذ حياتهم!

تم التحقيق معي مرتين.. نفس الأشخاص الذين حققوا مع والدي، كنت أبلغ من العمر 18 عاما، ولم أدخل مخفرا في حياتي قط، وكان التحقيق الأول معي مجرد أسئلة بطريقة سريعة عمَّا كان يدور في منزلنا من اجتماعات وغيرها.. كان التحقيق في المرة الثانية يعد محاولات عدة للضغط على والدي، ولكنه قال لهم: ∩لن أعتذر مهما حدث∪.. ورفض رفضاً نهائيا، ولذلك أدخلوني على مدير أمن البصرة، وكان له منصب في حزب البعث، وكان أسلوبه في الأسئلة شديدا ولم يستفد مني شيئًا، وأرجعوني إلى الزنزانة، ومن شدة خوفي ارتفعت درجة حرارتي.

المعتقل‭.. ‬فزع‭ ‬ووحشية

التواجد في هذا المعتقل كان من الأمور الصعبة، ولكن الأصعب تمثل في المشاهد التي مرت بي.. فذات ليلة سمعنا أصوات عالية في الزنزانة المجاورة لنا، ولكننا لم نكن نعرف ماذا يحدث، وفي الصباح حان الأذن لنا بالذهاب إلى دورة المياه، فذهبنا جميعا وتركنا ابن عمتي أحمد في الزنزانة، وفي طريق عودتي رأيت شخصا ممددا على الأرض لا أرى سوى قدمه في نفس المكان الذي يجلس به أحمد عندما يصاب بأزمة الربو، وحوله أشخاص يقولون إنه قد مات، أصابني الفزع والخوف وهرعت إليه لاكتشف انه ليس أحمد، وانه شخص آخر أصيب بنوبة قلبية، وكان يصيح ويطلب أن يعود لوالدته، وانه سوف يموت، فضربه الحراس حتى فاضت روحه، وظلّت جثته ممددة في الممر طوال الليل.

في 27 ديسمبر1990، حان وقت عودتنا للكويت، أي بعد يوم واحد من نقل الوالد وكل من ناصر وخالد وعبدالعزيز إلى سجن آخر.. وصلت السيارة إلى قصر العدل، وبدأ الحراس ينادون اسما تلو الآخر إلى ان نزلوا جميعا من السيارة، وبقيت أنا منفردا إلى ان أتى جندي عراقي يمسك ورقة لينادي اسمي، واجلسوني بعيدا عن الباقين، وتم توزيع كل من الأسرى حسب منطقته ليقوم المخفر باستلامه والاتصال على ذويه، وقد أفرجوا عن الأسرى الباقين في اليوم نفسه، وبقيت أنا في الزنزانة أربعة ايام.

الليلة‭ ‬التي‭ ‬أُنقذت‭ ‬فيها‭ ‬حياتي

ليلة رأس السنة 31 ديسمبر1990 أعتبرها الليلة التي أنفذت فيها حياتي، حيث أتى لي شخص من المخابرات العراقية واصطحبني في سيارته، والقلق يسيطر عليَّ.. فلا أعلم ماذا سيحدث، حتى وصلنا إلى قصر نايف، وهناك كان الحراس يحتفلون بالسنة الجديدة، وقالوا لي: ∩نحن الآن مشغولون ولا نستطيع ان نعيدك إلى منزلك∪، وفتحوا أقرب زنزانة وأدخلوني فيها.
مع الوقت، علمت أنهم ليس لديهم أي معلومات عن سبب اعتقالي، ومن هنا قمت باستغلال الموقف باختلاق قصة أنه تم القبض عليَّ اشتباهًا خلال ذهابي لإحضار الدواء لوالدتي، ولم يجدوا حلا سوى ان يتحفظوا عليّ لديهم في السجن نحو ثلاثة أسابيع.

من الصدف التي ساقها القدر لي أن جاء ضابط يدعى ∩زياد∪، وكنا نسمع عنه انه من الضباط الذين لا يحملون في قلبهم رحمة ويعذبون الأسرى، كان يمر بأحدهم ويسأله: ما اسمك؟ وعندما يذكر الأسير اسمه، يقول له الضابط ∩زياد∪: غداً ستموت.. فينهار المسكين، ويقضي الليل في البكاء والتفجع.. وينقضي اليوم التالي من دون أن يتعرض الاسير لأي مكروه، وأظهر لي التعامل الجيد كوني اسمي ∩زياد∪.

في 18 يناير 1991، وهو اليوم الثاني لعاصفة الصحراء، جاء الضابط ∩زياد∪ ليتفقد الأسرى وأسمعهم كلمات لطيفة وبشّرهم بإطلاق سراحهم غداً، وعندما جاء عندي يسألني أخبرته انني مسجون ظلما، وأن والدتي مريضة وأريد الخروج.. استمع لي، ثم قال: أنت زياد؟ أجبته: نعم.. قال لي: غدا سوف تخرج.. جملٌ اعتادت أذني على سمعاها في السجن دون جدوى، وفي اليوم التالي تم استدعائي إلى مكتب الضابط ∩زياد∪ الذي طلب مني الاتصال بوالدتي، فرفضت خوفًا على الوالدة من المفاجأة، فتحدث الضابط إلى أمي وزفّ إليها البشرى السعيدة.

أحمد‭ ‬الصانع‭:‬‭ ‬التجربة‭ ‬كانت‭ ‬جدا‭ ‬صعبة‭ ..‬قلبت‭ ‬حياتي‭.. ‬وأحمل‭ ‬تفاصيلها‭ ‬في‭ ‬طيات‭ ‬نفسي

عما كان يدور في ذهنه أثناء انتقاله بسيارة الجنود العراقيين إلى البصرة يقول أحمد الصانع:
في يوم 21 سبتمبر 1990 كنت في منزل خالي فيصل، واستيقظنا على أصوات عالية، وكان ديوان خالي فيصل مفتوحا عادة لأهالي المنطقة ورجالاتها، وتم القبض يومها علينا، ولم يكن يدور في ذهني وقتها سوى ∩انهما سؤالان ورادين البيت∪ حسب كلام الضباط الذين هجموا على ديوان خالي فيصل وأخذونا، وكان إحساسي ان الموضوع بسيط، وإن شاء الله راجعين البيت بعد كم ساعة.

حين‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬مديرية‭ ‬الأمن‭ ‬بالبصرة،‭ ‬أدركت‭ ‬حينها‭ ‬أن‭ ‬الموضوع‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬سؤالين‭!‬

ولكن حين وصلنا إلى البصرة (مديرية الأمن تحديدا) أدركت حينها أن الموضوع ليس مجرد سؤالين، فقد تغيرت الوجوه والتصرفات، وأيقنت أن الموضوع أكبر من ذلك بكثير، وانه جدّي؛ فهو معتقل سياسي في جمهورية عربية، ولك أن تتخيل كيف كان الوضع!
وعن امكانية تحدثه مع الوالد أو الخال فيصل خلال هذه الرحلة الأليمة يقول:
لم يكن هناك مجال للحديث معهما خلال انتقالنا من كيفان إلى البصرة؛ حيث نقلنا أنا وزياد والخال فيصل والعم نايف صديق العائلة وابنه وليد كأول دفعة، ولم يكن هناك مجال للحديث او الكلام؛ لأن الخوف والقلق كان يخيمان علينا، ولم أكن أعرف أن الوالد اقتيد هو الآخر إلى البصرة إلا بعد 4 أو 5 أيام من أسرنا.. وقتها علمت بوجود الوالد وباقي أفراد العائلة، كنت فقط أراهم من بعيد، ولم أستطع التواصل معهم نهائيا.
ويتذكر الكثير من الأحداث والمواقف التي شاهدها خلال فترة حجزه مع الأسرى الكويتيين في البصرة، فيقول:
الأحداث والمواقف كثيرة والمعاناة كبيرة، لا تختصر في سطور، ولكن مجموعات الناس الذين كانوا معي بالأسر كانت متنوعة، فكان هناك عناصر من المقاومة الكويتية، وبعض الشخصيات الكويتية التي أسرت ظلما وعدوانا بدون أي ذنب لمجرد عدم تغيير لوحة سيارة أو رد غير مناسب علي أحد عناصر نقاط التفتيش.. وغيرها من الأسباب البسيطة الكثيرة.

كان‭ ‬كل‭ ‬واحدٍ‭ ‬منا‭ ‬يعتقد‭ ‬أنه‭ ‬واصلٌ‭ ‬للإعدام‭ ‬لا‭ ‬محالة‭!‬

أتذكر أحد الأشخاص كان يدعى ∩طاهر∪ ولا يحضرني اسم عائلته، كان مدنيا من عناصر المقاومة وكانت بطولته في أنه رمى بالبازوكا إحدى طائرات العراقيين التي كانت تنقل قيادات عراقية، كنا نرى أساليب تعذيبه ونسمع صرخاته يوما بيوم وليلة بعد ليلة إلى أن تم إعدامه وارتاح!
كان كل واحدٍ منا يعتقد أنه واصل له لا محالة، خصوصا عندما يدخل علينا أحد الحرس كل بضعة أيام ويخبر أحدنا أن موعد إعدامه بعد 4 أيام، يقول هذه الجملة ولا يلقي لها بالا، فلكم ان تتخيلوا كيف كانت تلك الأيام تمر علينا!!
وعن طبيعة التحقيق معه والتهم التي وُجهت إليه يقول:
التحقيق معي كان بسيطا، الغرض منه الحصول على معلومات عن العائلة وعلاقتي بخالي فيصل، ولم توجه إليَّ أية تهم.
أما توقعاته عند عودته للكويت بعد الإفراج عنه ودخوله منزله، فيذكر عنها:
قبل خروجنا بيوم تم أخذ والدي وخالي فيصل وخالد ابن خالي وعبد العزيز ابن عمي ليلاً كالعادة للتحقيق، ظللنا ننتظر عودتهم حتى الفجر إلى أن غلبنا النوم ولم يعودوا، تم إيقاظنا مبكرًا وقدموا لنا وجبة الإفطار على غير العادة قبل باقي المعتقلين، وأخبرونا بأنه سيتم الإفراج عنا، فتوقعنا انه من البديهي قد أُفرج عن الوالد والخال فيصل وخالد وعبد العزيز.. وفي اللحظة التي دخلت فيها إلى المنزل كان أول سؤال: هل أبي موجود؟ ومن تلك اللحظة بدأ الانتظار إلى عام 2003 حتى انقطع الأمل.
كان الأسر والغزو بشكل عام وما بعدهما من أقسى الخبرات الإنسانية، خاصة بالنسبة إلى شاب مثله كان في عمر 16 عامًا فقط. مما ترك في نفسه أثرا لا يُمحى، يعبّر عنه بكلماته الخاصة:
بالنسبة لي، التجربة كانت جدا صعبة قلبت حياتي، أحمل تفاصيلها في طيات نفسي، فكرة التمسك بخيوط الأمل في عودة الوالد وخالي فيصل وخالد وعبد العزيز، ثم الإحباط الكبير لفقدان الوالد وافتقاده.

دلال‭ ‬الصانع‭:‬‭ ‬كانت‭ ‬جوارحنا‭ ‬تتساءل‭.. ‬كيف‭ ‬يحدث‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬لحظة؟

وسط‭ ‬الفزع‭ ‬والترقب‭ ‬قال‭ ‬خالي‭ ‬فيصل‭: ‬‮«‬نحن‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬باقون‭ ‬صامدون‭ ‬لن‭ ‬نتخلى‭ ‬عنها‭ ‬مهما‭ ‬حدث‮»‬

عن أول يوم في الغزو، قالت دلال الصانع:
في فجر 2 أغسطس سنة 1990 كانت الأسرة مجتمعة بأكملها في الشاليهات بمنطقة بنيدر.. فزع خوف وترقب للمجهول.. مناقشات واحتمالات وقرارات متضاربة، الجميع بين ماذا حدث؟ وما العمل؟! القوات العراقية أصبحت في طريقها إلى جنوب الكويت.. هل نبقى في بنيدر؟ هل نعود إلى كيفان؟ هل نخرج إلى السعودية؟ وإذ بصوت خالي فيصل يقول: ∩نحن في الكويت باقون صامدون لن نتخلى عنها مهما حدث∪.. ونحن في الطريق إلى مدينة الكويت إذ بأصوات إطلاق النار تملأ سماء الكويت، والدبابات العراقية في الجانب الآخر من الطريق بالاتجاه إلى الحدود السعودية، كانت جوارحنا تتساءل: كيف يحدث كل هذا في لحظة؟ بالأمس كنا نسبح في هذا البحر ليلا آمنين! كيف تبدل شعور الأمن بالخوف والجزع؟!

وعن يوم الغدر بأسر الشرفاء، قالت:
في فجر 21 سبتمبر 1990، تم إلقاء القبض على خالي فيصل الصانع وابنه زياد وأخي أحمد وصديق للأسرة وابنه؛ حيث كانوا نائمين في منزل خالي فيصل، وتم احتجاز زوجته وأطفاله الصغار بالبيت، ثم دُبر كمين في ديوان خالي فيصل الصانع الذي اقتحم من قِبل القوات العراقية لكون الديوان كان مفتوحا لأهل منطقة كيفان للتشاور وتدبير شؤون المنطقة وتوزيع النقود على المحتاجين منذ بدء الغزو.

لا‭ ‬أنسى‭ ‬صورة‭ ‬أمي‭ ‬وهي‭ ‬ملقاة‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬تصرخ،‭ ‬والصياح‭ ‬والبكاء‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬من‭ ‬هول‭ ‬الموقف،‭ ‬فقد‭ ‬فقدت‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬الزوج‭ ‬والابن‭ ‬والأخ‭ ‬وأبناء‭ ‬الأخ‭ ‬وابن‭ ‬العم‭.‬

وذهب والدي ناصر للديوان هو وغيره من سكان المنطقة؛ حيث ان الديوان كان مفتوحا للجميع للتشاور كعادتهم كل يوم دون أن يعلموا أن المنزل قد تحول يومها إلى كمين تم نصبه من المخابرات العراقية، وكان كل من يدخل في هذا اليوم للمنزل يتم أسره ويرحل إلى البصرة.. تم أخذ خالي فيصل وابنه زياد وأخي أحمد وصديق للأسرة وابنه فجرًا في حافلة متجهة مباشرة للبصرة، وتم ترحيل البقية لاحقا، ومعهم أبي ناصر وخالد وعبدالعزيز وطارق الصانع، حيث أصبح إجمالي من قبض عليهم في هذا اليوم 24 أسيرًا، عاد منهم 20 شخصًا، وتبقى 4: فيصل وناصر وخالد وعبدالعزيز.
مازال‭ ‬صوت‭ ‬أبي‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬أذني،‭ ‬وما‭ ‬زلت‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬السنين‭ ‬أتخيل‭ ‬أنه‭ ‬يرن‭ ‬جرس‭ ‬الباب‭ ‬لأراه‭ ‬قد‭ ‬عاد

وعن أكثر المشاهد قسوة في هذا اليوم، قالت دلال الصانع:
لا أنسى صورة أمي وهي ملقاة على الأرض تصرخ، والصياح والبكاء في كل مكان من هول الموقف، فقد فقدت في لحظة الزوج والابن والأخ وأبناء الأخ وابن العم.. في نفس اليوم كلهم ذهبوا، وبقيت راقدة لأيام، نحن لا نعلم ماذا حدث، لا نرى أثرًا لرجال الأسرة.. كنا أطفالا صغارا ونساء، وكان عليها أن تستعيد قوتها وتجمع طاقتها؛ لأن هناك حملا ثقيلا في رقبتها ينتظرها.
وأضافت:
حملت هذا المسؤولية منذ ذلك اليوم إلى يومنا هذا.. تخرجنا جميعنا في الجامعات، وأصبح لكل منا أسرة وأبناء، وأصبح لها أحفاد يحملون اسم أبي ينادى عليهم في أرجاء المنزل، فنشعر بوجوده بيننا وإن كان غائبا، حملت أمي هذا الحمل الثقيل بأمانة على أمل أن تلتقي بوالدي لتخبره بأنها لم تفرط في المسؤولية، وأصبحت الأم والأب بذات الوقت، وعلمتنا ان لنا اسما يجب أن نضعه أمامنا في كل تصرفاتنا واختياراتنا، فهو أغلى ما فقدنا، وعلينا أن نكون جديرين بحمله.

وعن الوالد الشهيد ناصر الصانع وذكرياتها معه، قالت:
هو الأب حنون القلب ذو الثغر الباسم، كان له علامة في أنفه تميزه عن غيره.. كان جميل الطباع، محبًّا لأسرته، كان يصحبنا كل يوم للمدرسة، يقوم بتدريسنا استعدادا للامتحانات، ينتظرني على باب مدرستي بنفسه ليحتضني ونحن في طريقنا للمنزل، مازال صوته إلى اليوم في أذني، وما زلت رغم كل هذه السنين أتخيل أنه يرن جرس الباب لأراه قد عاد.
وتابعت: وللعلم.. تم تشكيل مجتمع صغير للأهل في منزلنا في كيفان بعد أسرهم، وتم عمل مدرسة للأطفال يعزف فيها السلام الوطني يوميا، ويدرس الأطفال المواد المختلفة.
وعن أيام وشهور الغزو وصعوبتها وسنوات الانتظار وتبدد الآمال، قالت:
7 شهور.. منذ 2 أغسطس 1990 حتى 26 فبراير 1991، فترة عشنا أثناء الغزو، ولكن العيش ما بعد الغزو هو امتحاننا الحقيقي، واختبار الله لنا، كيف لنا ان نعيش ونحن لا نعلم مصير من فقدانهم؟ كيف نبحث عنهم؟ ما السبيل إليهم وكل الطرق قد أغلقت في وجوهنا؟!
انتظرنا 13 عاما وصولا إلى لحظة سقوط بغداد على أمل عودتهم، وهو أمر يصعب كتابته، فليلة سقوط بغداد كانت نهاية الأمل في العثور عليهم، فلا يمكن أن تسقط بغداد قبل أن يساوم عليهم.. يومها تيقنا أن أمل عودتهم تبدد للأبد.
وتابعت:
كنا نخاف أن ننسى اللحظات المهمة، وعند عودتها لا نتذكرها لنحكيها لأبي، كان فقد جدتي والدة أبي من أصعب اللحظات أيضا، وكان التفكير في ماذا نقول له لو عاد وسأل: أين أمي؟
من الصعب على الإنسان الذي لم يمر بما مررنا به أن يعرف ماذا فقدنا، وكيف انتظرنا كل هذه السنين، ويصعب علينا أيضا ان نصف كل سنوات الانتظار، وها نحن اليوم في عام 2020 وما زلنا بانتظار شهيد يحمل ورفات يدفن وقبر يصلى عليه.
تسألني ابنتي في كثير من الأحيان: كيف مات جدي؟ ومتى؟ فأقول: لا أعلم، ولكن عقلها الصغير لا يستوعب كيف لي لا أعلم وأنا أقول إنه شهيد.. هي لا تعلم أننا لم نكن هناك حين لفظ أنفاسه الأخيرة.. لم نكن هناك حين تألم وترك هذه الدنيا الفانية، هي لا تعلم أن هذا الجرح مازال ينزف ولم ولن يلتئم كلما تذكرت أنه ذهب إلى ربٍّ كريم دون أن يعلم كيف نحن وماذا أصبحنا، وإذا كنا بخير أم لا!!

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق