تحقيقات

شهيدات الكويت.. غابت الصور وبقيت البطولات

ربع قرن من الزمان ونيف مرت على ذكرى الخميس الاسود ولا تزال أصوات شهيدات الكويت تملأ الأصداء، ففي الثاني من اغسطس 1990 استيقظت الكويت المسالمة الآمنة لتجد نفسها بين انياب النظام العراقي البعثي الذي احتل الكويت بدباباته، فلم يترك شبرا واحدا الا وقد  مكنه من جنوده وعتاده وآلياته العسكرية، سبعة شهور من الاحتلال الآثم على الاراضي الكويتية، سبعة شهور مرت عليهم وكأنها سبعة قرون فسيطرات الجيش العراقي كانت تملأ الشوارع والسيطرة هي نقاط تفتيش عسكرية يتم من خلالها تفتيش جميع السيارات والاشخاص المشتبه بهم والقبض على من لا يعترف بان الكويت هي المحافطة التاسعة عشرة للعراق.. سيطرات سيطرت على الشوارع ولكنها ابدا لم تسيطر على ارادة الكويتيين، فالكويت كانت وستظل بلدهم الاوحد.

سبعة شهور مرت على الشعب الكويتي وكأنها سبعة قرون، هل يمكن ان نتصور وقع تلك الايام السوداء والغمامة الكئيبة  التي غطت سماء الكويت وارضها فصرخات الاسرى والمعذبين وشهداء الوطن كانت في كل مكان وان لم يسمعها الا جلادو صدام ومجرمو النظام ممن تلوثت اياديهم بدمائهم العطرة.

مرت الايام نعم انما ذكراها لا تزال عالقة في اذهان وقلوب من فقدوا قريبا لهم سواء بالاسر او الاستشهاد، أوراق الرزنامة تسقط يوميا ويزداد مع كل ورقة ألم الفراق على شباب وشابات دفعوا حياتهم ثمنا لحرية الوطن وعقابا على كلمة لا للاحتلال.. نعم هو ثمن قليل اذا ما قورن بحرية الكويت ولكنه يبقى غاليا بل الاغلى على البلاد والاهل.

قصص الشهداء والاسرى لا تنتهي بل تذهب الاجساد والصور وتبقى الاسماء خالدة تضيء في سماء الكويت وتسطر تاريخها الحديث، وهنا نقدم حكايات لبعض شهيدات الوطن كنماذج للعشرات ممن ضحين طوعا بحياتهن دون اي تفكير، اخترنا شهيدات ليس تميزا في الجنس انما هو مجرد تسليط للضوء على دور المرأة الكويتية الريادي في مسيرة الوطن:

 

سناء الفودري أول شهيدة في تاريخ الكويت

عشر رصاصات اخترقت جسد الشهيدة سناء الفودري بعد اسبوع واحد من الاحتلال.. لم تحمل سلاحا.. لم تقتل.. لم تعتد، ذنبها الوحيد انها خرجت في أول مظاهرات سلمية مناهضة للاحتلال كان ابطالها من النساء والاطفال تحميهم سيارات الشباب الكويتي من كل جانب. هتافات سناء العالية وهي تحمل علم الكويت في يد وصورة الامير في الاخرى ملأت الاجواء «يا صدام شيل ايدك ترى الشعب ما يريدك»، وعبارات اخرى اصابت المحتل بالجنون، فما ان وصلوا الى مخفر شرطة الجابرية حيث كانوا يتمركزون هناك حتى خرجوا بكل غل وحقد واصابوا الوردة الصغيرة بوابل من الرصاص بدأوا برصاصة في البطن لم تشعر بها أمها واختها اللتان كانتا معها برفقة أخيها فهد.

سقطت سناء على الارض دون ان تشعر الام انها مصابة بطلق وطلبت من والدتها الاختباء وراء محول كهرباء قريب من موقع الحدث لحماية اخيها من طلقات يد الاجرام، وكانت اخر كلماتها «انا انتهيت» بعدها تلقت باقي الطلقات التسع وتناثر دمها العطر على اسفلت الوطن، فشلت كل محاولات شقيق سناء وبعض الشباب ممن كانوا يحمون المظاهرة في  انقاذها بل وقتل احدهم لتطلع روحها الطاهرة البريئة الى خالقها راضية مرضية ويبقى اسمها نجما مضيئا من نجوم الوطن ويسجل باعتبارها اول شهيدة في تاريخ الوطن.

 

أسرار القبندي استشهدت لأنها لم تفش سر المقاومة

اسرار القبندي اسم على مسمى، فاسمها اسرار وهي بالفعل لم تفش اسرار مجموعة المقاومة  التي كانت تعمل معهم.. ذاقت من ألوان العذاب ما لا يتحمله بشر لانتزاع معلومات قد تقودهم الى زملاء النضال، اقتلعوا اظافرها.. صعقوها بالكهرباء.. اقتلعوا عينيها ولكنها لم تضعف.. ماتت اسرار بعد الحكم عليها بالاعدام رميا بالرصاص ولم يكتفوا بذلك بل شقوا رأسها وانتزعوا مخها.

ولدت الشهيدة في نوفمبر عام 1959،  هي السادسة من بين إخوتها درست بالكويت حتى سن الثامنة عشرة، بعدها انتقلت إلى إنجلترا لتعلم اللغة الإنجليزية ومنها الى الولايات المتحدة الاميركية حيث حصلت على شهادة الثانوية في ولاية كولورادو. تخصصت في مجال الكمبيوتر وهو ما ساعدها كثيرا اثناء فترة المقاومة، شغفها بالعلم والمعرفة قادها إلى الحصول على ثلاث شهادات ماجستير في كل من التربية، والاقتصاد، وتأهيل المعاقين.

انضمت أسرار القبندي للمقاومة الكويتية الباسلة بعد اسبوع واحد من الاحتلال حيث اوكلت لها مهمات عدة تتناسب وحجم شجاعتها وجسارتها، فكانت اولى تلك المهمات هي حصولها على قائمة بأسماء الأشخاص المهمين بالسفارة البحرينية لإخراجهم خارج البلاد وتكللت مهمتها بالنجاح.

قامت البطلة ودينامو المقاومة بربط الكويت الصامدة بالقيادة الشرعية في مدينتي الطائف والخفجي من خلال اتصالاتها الهاتفية او باللاسلكي أو عبر الفاكس، حيث كانت تفيدهم بالتقارير العسكرية  التي كانت تعدها مع عسكريين كويتيين بقوا بالكويت وأخرى تلخص ما يدور على ارض الوطن من ممارسات وحشية تقوم بها قوات العدو من اعدامات وقتل وتخريب ولمن لا يعرف او عاش تلك المرحلة السوداء فقد كانت تعتبر تلك الاعمال خيانة عظمى تستحق الاعدام الفوري.

ساهمت اسرار ايضا في توفير الحياة الكريمة للكويتيين الصامدين في ظل الظروف المعيشية الصعبة، حيث كانت تجوب مناطق الكويت وهي تحتضن كميات كبيرة من الأموال لتوزعها على الأسر المحتاجة وأسر العسكريين والشهداء والأسرى والنازحين من جزيرة فيلكا الى جانب توفير أماكن آمنة لرجال المقاومة الكويتية لاجراء العلاج اللازم لهم.

ولم تنس الفتاة الجسورة أن بالكويت رهائن من الاجانب يحتاجون للحماية فأخفت 65 رهينة كانت ترعاهم رعاية كاملة رغم عقوبة الاعدام  التي كانت تلاحق كل من يخفي او يتستر على مكان اجنبي بالكويت.

عطلت اسرار عمل بعض المرافق لكي تحول دون استغلال سلطات الاحتلال لها، فقد عطلّت أجهزة المراقبة الهاتفية في مقسمي النزهة ومشرف حيث دخلت المبنى كعاملة نظافة، كما قامت باستخراج دسكات مركز المعلومات المدنية في منطقة الجابرية وكذلك البنك المركزي، ووزارة الخارجية ووزارة الداخلية.

خططت لإطلاع العالم الخارجي على ما يحدث داخل أرضها المحتلة وكسر حاجز الصمت وفضح جرائم العدو العراقي الذي كان يخفي ما يحصل داخل الكويت، فقامت بإرسال صور من ضحايا التعذيب والتشويه على أيدي جنود الطاغية صدام للعالم، وكذلك قامت بالاتصال بالمذيعة الأميركية الشهيرة «باربرا والترز» عبر اختراق إعلامي قامت به وقد أذاعته محطة إم بي سي وتبعتها قنوات إعلامية عالمية أخرى مثل سي إن إن.

واصلت بطلة الكويت نضالها من أجل الحرية ومعركتها ضد العدو من أجل تحرير أرضها الطاهرة حتى جاء يوم الرابع من نوفمبر 1990 فكان يوم القبض عليها في كمين وضع لها بعد أن وشي بها على القول الأرجح، وتحققت أمنية العراقيين، واقتادوها إلى المعتقل، وخلال فترة 70 يوما عاشت القهر والألم والتعذيب على أيدي الغزاة ومع ذلك ظلت مرفوعة الرأس ولم تبح بأي سر أو معلومة. عرض عليها مبعوث صدام العمل معهم والاستفادة من خبراتها ولكنها رفضت بشموخ وفضلت النهاية النبيلة رغم الألم والرعب اللذين ذاقتهما على أيديهم.

في الحادي عشر من يناير كانت النهاية حيث تم تنفيذ حكم الاعدام بحقها بمنطقة المشاتل وكانت في حالة مزرية من التعذيب ومن ثم قاموا بالقاء الجثة على باب منزل والدها بضاحية عبدالله السالم. صعدت الروح الى بارئها ولكن ذكراها لا تزال تسطر في تاريخ الوطن.

 

سعاد الحسن.. أُسر الزوج فقتلت غدراً

صورة اخرى مشرفة لشهيدة عشقت الوطن واحبت الزوج فدفعت حياتها ثمنا لهما، انها الشهيدة سعاد الحسن  التي دفعها قلقلها على مصير زوجها العسكري الذي أسرته القوات العراقية وهو في طريقه للعمل في الصباح الباكر الى الالتحاق بالمقاومة خصوصا  انها جاءت بناء على نصيحة الزوج اثناء زيارتها له بسجن الموصل.

انضمت سعاد بعد اربعة اشهر من فقدان الوطن والزوج الى المقاومة من خلال «مجموعة الفيحاء»  التي كان يقودها صديق، حيث تعاونت سعاد في البداية مع المجموعة بتوزيع الأموال والأغذية وتقديم الخدمات المدنية المتنوعة حيث انقطعت كل سبل الحياة آنذاك واصبح مجرد الخروج للبحث عن المأكل والمشرب خطرا داهما.

شاركت سعاد بعد ذلك في خلية المقاومة الشهيدة وفاء العامر وكانت متحمسة للعمل مع أي مجموعة تقاوم العدوان، قامت بنقل السلاح دون خوف ومن بينها عملية كان من الممكن ان تقضي على حياتها فوريا حيث قامت بالتعاون مع العامر بنقل ثلاثة عشر مسدسا على الرغم من مرورها في ذلك اليوم على أربع نقاط تفتيش ولكن الله اعمى عيونهم وقلوبهم فلم يروا  الاسلحة.

لم تتوقف الشهيدة عن هذا الحد بل تعاونت مع قائد مجموعة 25 فبراير على نقل مواد شديدة الانفجار وتوفير الذخائر وعجائن «تي ان تي» لعمليات التفجير بالتعاون مع وفاء ووضعها في علب الحلوى  التي تم تهريبها الى داخل فندق سفير انترناشونال الذي كان مقرا للعدو.

في العاشر من يناير كانت نهاية البطلة غدرا حيث تلقت والدة الشهيدة مكالمة هاتفية من سيدة مدسوسة ابلغتها بلكنة عراقية عن وصول رسالة من زوج ابنتها الأسير وكانت المفاجأة، فالرسالة مدسوسة تحتوي على كلمات ضد طاغية العراق وفيها المديح للشرعية الكويتية أريد بها فقط الايقاع بسعاد واعتقالها وقد تم.

بدأت رحلة العذاب بكل الاشكال غير الانسانية لمعرفة اماكن تواجد شباب المقاومة للقبض عليهم، ولكنها لم تفصح عنهم ما اضطر السلطات الى دس مادة مخدرة في طعامها مصطحبة اياها الى منزلها لمراقبة مكالماتها الهاتفية ومن ثم اصطياد الاهداف، ومن بينهم وفاء ولكنها رفضت القيام بذلك ما اضطرها الى اعادتها مرة أخرى الى سجن الأحداث حيث بدأت مرحلة التعذيب، وقد طلبت الشهيدة من والدتها ان تحضر لها دواء صعوبة التنفس لأنها في وضع قاسٍ، ورغم توسل والدتها الى الضابط المسؤول عن السجن بأن يسمح لها برؤية ابنتها الا أنه رفض وبشدة واستمرت بالحبس حتى صدر الحكم عليها بالاعدام وايضا القيت جثتها على باب منزلها.

 

المناضلة النحيلة  التي هزت عرش المحتل وفاء العامر

انفجار ضخم هز الدور الثاني عشر من فندق سفير انترناشونال احد مراكز اقامة جيش العدو.. هذا الانفجار الذي اعاد الروح المعنوية المرتفعة للمواطنين الكويتيين الذين صمدوا في الكويت وكانوا يتلهفون لسماع اي خبر او تحرك للمقاومة الكويتية في الداخل، انفجار اربك قوات الاحتلال  التي كانت ترهب كل من في شوارع الكويت.. انفجار رفع الروح المعنوية للكويتيين وحطم معنويات العزاة.

هذا الانفجار  كان نتاج عجائن المتفجرات الشديدة الانفجار  التي وضعت في علب الحلوى ونقلتها الشهيدة وفاء الى داخل الفندق بكل جسارة وشجاعة فاقت كل الحدود.

وتبدأ الحكاية بعد أن انضمت وفاء (التي تقول عنها والدتها في لقاءات متلفزة انها كانت نحيلة الجسد وتخاف من الظلمة) للمقاومة الكويتية حيث كانت مصممة على طرد المحتل من اراضيها بأي ثمن، فرفضت المغادرة وتحولت الى عضو فعال في مجموعات المقاومة، ففي الأيام الأولى للاحتلال قامت بالاتصال بمخافر الشرطة ومحاورة الضباط العراقيين ومجادلتهم في أسباب الاحتلال، وكانت تعتبر ذلك وسيلة من وسائل الحرب النفسية تعبيرا عن رفضها وغضبها، ودأبت على حث الأهالي على المرابطة والصمود مهما كان الثمن، ونشطت في مجال الخدمات المدنية العامة، فقد كانت تقوم بتوزيع المواد الغذائية على الأسر المحتاجة وقامت بالتعاون مع ابنة عمتها بمشروع لمساعدة النساء الحوامل وبخاصة زوجات الأسرى، وتوزيع الأموال التي وفرتها القيادة الكويتية وهذه الأعمال تعد مخاطرة كبيرة وعقوبتها الاعدام ولكن الشهيدة لم تأبه لذلك وأقدمت على اخفاء الأموال ونقلها·

وسعت الشهيدة من نشاطاتها ودخلت على خط المقاومة المسلحة، ففي البداية انضمت الى خلية مفيد مبارك ومجموعة «25 فبراير» وأصبحت عنصرا نسائيا نشطا ضمن احدى خلايا هذه المجموعة، وكان دورها تزويد المجموعة بعجائن التفجير لاستخدامها في عمليات التفجير وبسبب شجاعتها وقوة شخصيتها وحماسها برز دور الشهيدة في الخلية، ولعبت دورا مهما في عملية تفجير صهريج مياه في شارع الرياض، وكانت تقوم بتمويل المجموعة بالأموال وكل ما يتصل بالمقاومة المدنية والعسكرية، وساعات التوقيت التي كانت وفاء تزود المقاومين بها وهي عبارة عن ساعات الغسالات الأتوماتيكية التي كانت تستخرجها من غسالات الملابس الخاصة.

قامت بعملية تفجير ببعض الساحات التي يتجمع فيها جنود الاحتلال في منطقة التجمع العسكري، وكذلك نقل الأسلحة من منطقة الجابرية إلى أماكن أخرى متعددة حيث يتم التغيير والتمويه باستمرار حسب المجموعة ومكان نشاطها في مقاومة المحتلين.

قامت الشهيدة بدور رئيسي في عمليات جريئة مثل عملية منطقة الحساوي، ووضع السم في الكيك الذي تقدمه الى جنود الاحتلال عند نقاط التفتيش الى ان جاء يوم الاعتقال حيث اعتقلها الغزاة وهي في منزل ابنة عمتها.

وهكذا توقف نشاط الشهيدة الذي بدأته منذ الساعات الأولى للاحتلال وتم نقلها الى سجن الأحداث في منطقة الفردوس، حيث تعرضت لأشد أساليب التعذيب من ضرب مبرح  الى الصعق بالسلك الكهربائي والوخز بالابر وبخاصة عند مفصل القدمين وفي ساعدها الأيسر، وتحملت الشهيدة الشابة الضعيفة البنية قسوة المعتقل ووحشية قوات الاحتلال، ورغم ذلك لم تعترف بأسماء المجموعة ولم تدل بأي معلومات تفيد الغزاة، والدليل على ذلك ان هناك أماكن أسلحة كانت تعرف عناوينها ومع ذلك لم يتم دهمها من قبل السلطات العراقية المحتلة، وأكد قائد مجموعة «25 فبراير» ان عدم اعتراف الشهيدة حفظ ارواح شباب المقاومة.

قائمة الشهيدات طويلة لكل منهن حكايات من البطولة والشجاعة  التي أربكت العدو المحتل و التي ان دلت على شيء فانما تدل على قوة المرأة الكويتية وشجاعتها وعشقها لتراب الوطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق