تحقيقات

فاطيما الغول.. فنانــــة تطـــوف بالمدن عبر الرسم بالحناء

لم تكن تعلم الطفلة الصغيرة أن حبها لحصة التربية الفنية سيقودها يوما إلى أن تصبح رائدة في لون فني خاص بها، كما لم يخطر ببالها ان شغفها بنقش الحناء الذي تعلمته من بعض النساء بدولة الإمارات العربية المتحدة حيث ولدت ونشأت سيفتح لها آفاقًا كبيرة.

فاطميا الغول (36 عاما)، وجدت في مادة الحناء التي كانت تستخدم قديما لتزيين النساء عبر تخضيب الأيدي وصباغة الشعر وعلاج الجروح مادة فريدة لتترك بصمتها الخاصة على لوحاتها الفنية المميزة.

 

 

مادة الحناء التي عرفت منذ زمن الفراعنة الذين استخدموها في أغراض متعددة، باتت اليوم مادة خاما للرسم لدى فاطيما، لتكون أول فنانة في الشرق الأوسط تستخدم هذه المادة لرسم لوحات غاية في الروعة، تتميز بدقة تفاصيلها وملامستها للون الطين الذي يعبر عن الأرض.

غير أن الأمر لم يكن بهذه السهولة، فالرحلة حتى الوصول الى ما وصلت إليه اليوم مرت بعديد من المراحل التي عانت فيها فاطيما لتجد نفسها وتكتشف تميزها عبر الرسم بالحناء.

البداية كانت في معرض المرأة والطفل، عندما كانت فاطيما تمارس عملها الأساسي في النقش للسيدات على أيديهن، لتلقي هناك بسهيل عطا الله مدير شركة دي كود المختصة في تبني المواهب والعمل على تنميتها، حيث لمح فيها تميزا واحترافية، وقتها عرض عليها العمل معًا في محاولة ابتداع ما يسمى «الرسم بالحناء».

انطلقت الرحلة التي مرت بمراحل كثيرة تنوعت بين الفشل والنجاح لتجربة تلو الأخرى على مدار سنوات طويلة حتى وصلا الى اكتشاف القماش الأنسب للرسم عليه دون أن تذوب الحناء على اللوح، وكيفية رش اللوحة بمادة معينة قبل وبعد الرسم.

وعن تلك التجارب والمحاولات يقول عطا الله:

فكرة الرسم باستخدام الحناء فكرة خلاقة مبدعة، عرضتها على فاطيما التي تعاملت مع النقش لمدة تزيد على ثماني سنوات، ساعدتها أيضا موهبتها الكبيرة، وبدأنا العمل على إيجاد الخليط الأمثل من الحناء ذات الخواص المعينة التي لا تذوب سريعا والمتماسكة بعض الشيء، ويمكن استخدامها للرسم، حتى توصلنا الى خليط يتكون من الحناء السعودية واليمنية والسودانية، وهذه تعتبر سرا من أسرار عملنا.

ويشير الى أن جهودا متكررة بذلت لإيجاد المادة التي تساعد على تثبيت الحناء التي لا تتحمل أي رطوبة ولا مياه، فكان لا بد من إيجاد طريقة لتجعل اللوحة مقاومة للبيئة الطبيعية المحيطة، ويسمح بعرضها في أي مكان مهما اختلفت الظروف الجوية، ونجحنا في هذا بالفعل.

وعليه، نستطيع أن نقول إننا سجلنا نقطة انطلاقنا الحقيقية، وبدأت الفنانة فاطيما في إنتاج غزير من اللوحات ذات الجودة والاحترافية العالية.

 

ويقول عطا الله:

الرحلة بقدر ما كانت شاقة، فقد كانت ممتعة وغنية، فمع الوقت تأكدت من موهبة فاطيما وقدرتها على العطاء، وتحملها المشقة في سبيل الوصول الى هدفهما المشترك.

 

في جانب آخر، نجحت فاطيما في معادلة صعبة، بخلق التوازن بين عائلتها المكونة من زوج وخمسة من الأبناء، وبين حلمها وشغفها الفني، واستطاعت اجتياز تلك الصعوبات، ومواصلة طريقها الذي تؤمن بأنه لا زال في بدايته.

فلسطين وقضيتها هو ما يشغل بال فاطيما، التي اختارت رسم لوحات تعبر ≠عن أهم المعالم الفلسطينية، لأكثر من سبب.

تذكرها قائلة:

الحناء تعطي لون الأرض، والمعالم الدينية والأثرية في فلسطين المحتلة؛ كانت الأحق في أن أبدا بها أعمالي لأجسد ذاكرة المكان بهذه المادة التراثية، والتي تلامس إحساس الناس وتشكل لهم رائحتها عبقا من التاريخ.

وتجهز فاطيما حاليا ألبوما كاملا عن المدن والمخيمات الفلسطينية، بعد تجريدها من المعالم الإسرائيلية المستحدثة والتي أُضيفت بعد احتلال إسرائيل لتلك المدن والقرى، ذلك لأن مشروعها مرتبط بالقضية والوطن، حسب تعبيرها، غير ان عقبات أخرى واجهتها في توفير المواد الخام للرسم، سواء قطع القماش أو خليط الحناء الذي توصلت إليه والنقص الشديد في مواد الطلاء، بالإضافة الى معاناة سكان القطاع من الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي الذي يقلص عدد ساعات عملها الى أكثر من النصف في أحيان كثيرة.

 

خريجة التربية الأساسية في جامعة القدس المفتوحة لا تجد حنينا كالذي يجذبها الى الحناء كل يوم، ولا تستطيع تخيل حياتها بدونها، كيف لا وهي التي حولت هوايتها الى مهنة مستغلة موهبتها في توفير فرصة عمل مناسبة لها بدلا من الانضمام الى صفوف العاطلين عن العمل، وسخرت موهبتها في تزيين الفتيات والعرائس؟

قليل من الحناء وقمع ورقي أعدته فاطيما بعناية هي الأدوات التي تستخدمها الفنانة الشابة، لتمضي مع لوحاتها ساعات طويلة، تنقش تفاصيلها بعناية فائقة، ودقة كبيرة، وتركيز منقطع النظير، حيث يستغرق العمل في اللوحة الواحدة ما بين أسبوعين وشهر ونصف الشهر في بعض الأحيان، بمعدل أربع ساعات أو خمس ساعات عمل يوميا.

 

تعتمد فاطيما في رسوماتها على تقنية الأبعاد الثلاثية في رسومها، وهو عبارة عن رسم المجسمات الحقيقية الموجودة في الطبيعة مع تبيان أبعادها الثلاثة، والتي تجعل من الصورة متحركة في ذهنها، وتنقلها على اللوحة كأنها حقيقية، معتمدة على الخداع البصري  من خلال الظل ودقة الأبعاد المستخدمة في الرسم.

 

فيما تؤكد أن الرسم بالحناء لا تتوقف صعوبته عند توفير الخليط المناسب وتجهيز اللوحة بشكل مسبق ولاحق للرسم، إنما يمتد الأمر الى ضرورة التركيز والدقة المتناهية، لأنه لا مجال للخطأ، فالخط المنقوش لا رجعة عنه ويمكن أن تتلف اللوحة في نهاياتها، وان هذا الأمر حصل معها مرات متعددة، مما اضطرها الى إعادة رسم بعض اللوحات من جديد، وللتغلب على هذا تعمد الى دراسة خطوط الرسم قبل رسمها.

 

وعن كيفية تجهيز الحناء للرسم توضح فاطيما أنه يتم خلط مسحوق الحناء ببعض المواد من أجل منحه الليونة لإمكانية الرسم به، ومن ثم تبدأ برسم مقاطع صغيرة من اللوحة ثم ترك الحناء خمس دقائق حتى تجف خاصة في الأجواء الحارة والرطبة، والتي من الممكن أن تجعلها غير قادرة على التحكم في الرسم بالحناء لأنها تذوب وتتحول إلى سائل بشكل سريع في الأجواء الحارة.

وتبين فاطيما أن الرسم بالحناء يحتاج إلى صبر كبير، حيث يستغرق الجزء البسيط من اللوحة إلى ما يقارب أربع ساعات يومياً وما يعادل شهراً كاملاً لإنجاز لوحة فقط.

وتقول:

رغم الجهد الكبير والوقت الذي أستغرقه في نقش لوحة فنية بالحناء، إلا أن الرسم بالحناء له رونق مختلف، فكلما عدت لتفقد اللوحات بعد مرور الوقت، وجدتها أجمل من قبل، وكأن هناك سراً في الحناء يضيف سحراً على اللوحة بعد فترة، وهو ما جعلني أتمسك بالرسم بالحناء لإضفاء مزيد من الجمال والسحر على لوحاتي الفنية، مشيرة إلى أنها بعد الرسم تضع مادة علي لوحاتها تحفظها من تعرضها للماء والرطوبة لفترة زمنية طويلة.

 

تستغل فاطيما التكنولوجيا والتطور، فتستخدم منصات التواصل الاجتماعي لترويج أعمالها التي لاقت استحسانا كبيرا، وقبولا مجتمعيا لدى قطاع المثقفين الفلسطينيين الذين أثنوا على تجربتها ودعموها، وأصبح لها جمهورها الخاص الذي ينتظر جديدها دائما ويتابعها باهتمام كبير.

فاطيما التي شاركت في عدة معارض محلية تنتظر تدشين معرضها الخاص، الذي اختارت له اسم «الأرض والحناء»، ويعبر بدقة عن محتوى لوحاتها الفنية التي تجاوز عددها العشرين لوحة فنية حتى الآن، غير أن حلمها الأكبر هو اقامة معرض فلسطيني كبير، وتجهز لهذا من اليوم رغم اختيارها تاريخ 2020 لتكون انطلاقتها نحو العالمية بتجسيد قضايا وطنية ومجتمعية وإنسانية متعددة.

«أسرتي» في كل مكان

عبدالله عمر – فلسطين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق