ثقافةعصير الكتب

«يـا ليـل يـا عيـن».. قـرن من حـكـايـات الفن والثقافة

بين صوت أم كلثوم و «صوت العرب»

في هذا الكتاب للمرة الثانية نقدم إليكم بعض حكاياته: الاستديوهات، الفيلات، الكازينوهات، الأزواج، العشاق، الأدوية المنوّمة، المال، الانتحارات، المسدسات، الفضائح، والفنادق الفخمة.. فيه الغناء، الموسيقى، الصوت، الهتاف، النجاح، والمجد.. فيه الجرأة، العبقرية، المغامرة، والمأساة.. فيه شعراء وأمراء، راقصات، مصرفيون، ضباط، أئمة، شيوخ، ممثلات، خواجات، موسيقيون، غاويات، سهارى، متمردون، سلاطين، باشوات، بكوات، جاسوسات، عباقرة، ملوك مصر وأهل بلاطها، صحافيون بارزون، ملحنون مشهورون، صاحبات ملاهٍ، كبار الحجّاب، وعازفو عود.. فيه الفلاحة الآتية من دلتا النيل والأميرة الدرزية، ابن المؤذّن والمطرب الوحيد، النجمة اليهودية والعقيد البطل.

في هذا الكتاب قرن من تاريخ شرقنا العربي، لذلك اخترنا منه بعض هذه الحكايات.

 

كوكب الشرق

تجسّد أم كلثوم نموذجاً شرقياً راسخاً في التقاليد ومنفتحا على التجديد في آن معاً، لا هي رجعية ولا منقادة بشكل أعمى للغرب، وقد اكتسبت هذه الكيمياء السحرية بحكم عنفوانها وسلطتها واتخاذها وحدها القرارات التي صقلت شخصيتها. تجلى نفوذها المطلق أثناء الإعداد للأغنية،  كانت تختار بنفسها النص والملحن، وتجري التصحيحات التي تريدها في الكلمات والموسيقى، تختار الأبيات وتعيد ترتيب الجمل وتستبدل الكلمات، وأحيانا لا تُبقي إلا اثني عشر بيتا تغنيها من قصيدة تتألف من اثنين وسبعين بيتا، تنتقيها بحسب رغبتها، في العام 1946، فاجأت الجميع عندما قررت بمفردها، وبالرغم من معارضة المقربين منها، أن تضم الى سجلها سلسلة من قصائد أحمد شوقي، أمير الشعراء، الذي توفي قبل خمس  عشرة سنة، وأكثر ما أثار الاستغراب في قرارها هو أن القاهرة جمعاء تعرف طبيعة العلاقة الاستثنائية التي ربطت شوقي بمنافسها الأكبر، محمد عبدالوهاب فكيف سيتعامل هذا الأخير مع هذه الصدمة؟

 

النكسة ومجوهرات أم كلثوم

كان الخامس من يونيو عام 1967 يوم الصدمة، والذل، والخيبة، وإراقة الدماء، وفقدان الإيمان، واليأس، والألم، والاستسلام، كان جرحا شخصيا، وكانت أم كلثوم محبطة ومحطمة. ست ساعات كانت كافية لتدمير كل الطيران المصري. خمسة أيام كانت كافية كي نخسر سيناء وغزة والضفة الغربية والجولان، والأسوأ من كل شيء، القدس، عبدالناصر يستعد لإلقاء خطاب متلفز. طبعه الضابط الشاب المسؤول وسلمه إياه فور انتهائه والدمع في عينيه.

أعاد عبدالناصر قراءته وأجرى عليه تعديلا واحدا، شطب بعض الكلمات في عبار ة «مستعد لتحمل تبعة ما يقع عليّ من مسؤولية» واستبدلها بـ «مستعد لتحمل كامل المسؤولية». تسمرت مصر كلها أمام شاشات التلفزيون، لقد أعلن عبدالناصر استقالته.

نزلت مصر الى الشارع فورا حتى قبل انتهاء الخطاب، وكذلك فعلت بيروت وبغداد ودمشق والجزائر العاصمة. «ناصر  ناصر » صيحات وصرخات يأس، وتوسلات الحشود مطالبة الرئيس بالبقاء، بعدم تركها وحدها. بكت أم كلثوم هي أيضا، لم ترد أن يتركها وحدها، لزمت لأسابيع منزلها، منهارة، حتى بعد عودته عن الاستقالة، كان الجرح داميا وظنت أنه لن يندمل أبدا. «يا قصبي، حسنا فعلت برحيلك العام الماضي.. وأخيرا جاءت ردة فعلها: «ستكرّس نفسها كليا لوطنها، ها هي مصر تحاول للمرة الأولى منذ خمس عشرة سنة رفع رأسها لتجد نفسها، في غضون ساعات، في أسفل درك، لكنها ستساعدها على النهوض مجددا، فهي قادرة على ذلك، تعلم أنها الوحيدة القادرة على ذلك، هي وهو، بدأت بمجوهراتها التي تبرعت بها للمجهود الحربي، وطلبت من جميع المصريات الاقتداء بها، ثم باشرت جولة وطنية تبرعت بأرباحها للوطن، كان مرورها يولد حماسة شعبية لا يستطيع أي خطاب أن يوقظها، استقبلت في محطات القطار باليافطات والزغاريد، وسط مشاهد الجذل التي أراحت السلطة، رفعت حفلاتها المعنويات في البلاد، ناهيك عن المبالغ التي دخلتها، وقد واكبها التصفيق كعاصفة لامتناهية من المنصورة الى طنطا، ومن بورسعيد الى أسيوط، في حفلتها التالية ستغني للمرة الأولى والوحيدة في بلد غربي، وذلك في مسرح الأولمبيا في باريس.

 

فيلا أسمهان في رأس الشارع

أمضيت طفولتي ومراهقتي في شارع صغير من حي مار نقولا في بيروت، وفي طرف هذا الشارع، عند زاوية التقاء طريقي طلعة العكاوي والرينغ، وعلى بعد مائة متر من منزلها، كانت تقع «فيلا أسمان» بمهابتها. لم أعرفها إلا مهجورة بشبابيكها المغلقة وسط بضعة أشجار فاتنة من العفص والنخيل والليلك المهملة، تنتصب فوق قطعة أرض منحدرة، ما يجعلها على مرأى من الجميع. ومع أنها تشبه كثيرا سائر مساكن الحي إلا أنها كانت تفتنني بشكل غريب. فقد أحاطت بهذا المبنى الضخم الأبيض القرميدي السطح، الذي يحاكي بهندسته نمط بيوت بيروت اللبنانية، هالة سحرية محيّرة تعود على الأرجح الى موقع المبنى المشرف على الحي وحالته المهملة، بلا شك الى شهرة نزيلته السابقة، ففي هذا المنزل عاشت أسمهان تحت الإقامة الجبرية بعد أن أسرها الإنجليز العام 1943 عند الحدود السورية – التركية، وهو آخر مكان أقامت فيه في لبنان قبل أشهر من موتها في القاهرة. كنت أجهل كل ذلك وأجهل حتى من هي أسمهان وفي أي حقبة عاشت وحدة اسمها شغل مخيلتي طوال سنوات الحرب هذه. ثم يوما بعد يوم نالت الفيلا، مثلها مثل سائر مباني بيروت، حصتها من القصف الكلاشينكوف والبازوجا وقذائف الهاون وسائر أنواع الأسلحة الثقيلة فعلت فعلها لتزيد من مظهرها الشبحي، وبالتالي من مهابتها في نفسي.

إذا بحثت اليوم عن فيلا أسمهان في بيروت فلن تجدها، فبعد أن صمدت في الحرب، اقتلعت، هي والأشجار التي كانت تحيط بها، في تسعينيات القرن الماضي، ليشيد مكانها المقاولون العقاريون عدة مبان من معدن وزجاج، ومكاتب وحوانيت.

 

 

صعود نجم ليلى مراد الصاعق

ليلى مراد هي ابنة زكي مراد، أحد أشهر المغنين في أواخر القرن التاسع عشر، ومن أوائل الذين قاموا بتسجيلات صوتية قبل الحرب الأولى، ذات يوم، فاجأ زكي الجميع وقرر القيام بجولة طويلة لعدة سنوات وصولا الى أميركا نفسها. غاب أربع سنوات، تاركا عائلته في القاهرة، ولما رجع كان قد أنفق الثروة التي جمعها. وبعودته لاحظ أن الأذواق تغيرت، إذ برز مغن شاب غيّر المشهد الموسيقي بأكمله، إنه محمد عبدالوهاب، هكذا بات زكي مراد بلا عمل، كانت الضربة قاسية، فامتهنت زوجته الخياطة لكي تعيل أسرتها، لكن ليلى الصغيرة تتمتع بصوت جميل، فقد تشبعت بالموسيقى طوال مرحلة طفولتها، وغنت في حفلة رسمية للمرة الأولى وهي في الثانية عشرة من عمرها، راح والدها يمرنها عاملا على صقل صوتها، ثم أسمعه لصديقه داود حسني، هل تذكرونه؟ إنه «مكتشف» أسمهان، بُهر الموسيقي الكبير بصوت الشابة وأخذها عند عبدالوهاب، الذي جذبه جرس صوتها الحديث فعرض عليها التمثيل الى جانبه في فيلمه التالي، وكان هذا، بالنسبة الى مغنية يافعة مثلها، بمثابة جواز السفر الى الشهرة.

في العقد التالي، جاء نجاح ليلى مراد مدويا حتى تجاوزت به كل منافساتها، صارت النجمة التي تتقاضى أرفع الأجور والمطلوبة أكثر من غيرها ومعشوقة الجماهير في السينما العربية، وكل ذلك في بداية أربعينيات القرن الماضي، يوم لم يكن أحد بعد يتعرض لأصولها اليهودية.

 

من ضفاف النيل إلى وهران وعدن والبصرة وبيروت صوتها «صوت العرب»

الموسيقى تأتي من القاهرة وهذا لن يتغير، وقد شهدت الاذاعة المصرية، بدفع من عبدالناصر، تطورا مذهلا، فقد حدث «الإذاعة المصرية» لتصبح قادرة على البث «من المحيط الى الخليج» وأنشأ إذاعة «صوت العرب» التي بثت أيضا الى العالم العربي بمجمله، فصار بالإمكان الاستماع مباشرة الى أم كلثوم في أول خميس من كل شهر، سواء في الدار البيضاء، أو في الجزائر العاصمة، أو في حلب والموصل وبغداد وصنعاء، لم يكن أي قائد في هذا الجزء من العالم ليخاطر بالإدلاء بأي تصريح في ذلك اليوم.

تحولت إذاعة  «صوت العرب» وسيلة أساسية لتعزيز موقع عبدالناصر، ليس فقط كقائد في العالم العربي، بل كقائد الشرق كله، وأم كلثوم، التي تدعمه بحماس، ساهمت الى حد كبير في ذلك، نشأ بينهما تفاهم متبادل وإعجاب واتفاق مشترك وطبيعي، تحول الى علاقة شخصية متينة جدا، لا شك في أن حبهما لمصر هو أكثر ما قرّب بينهما، إضافة الى أصولهما المتواضعة وحبهما الأصالة واهتمامهما بالفقراء وعزة نفسهما وجرأتهما، يعد البعض أن هذا التفاهم التام بين هاتين الشخصيتين نابع من المصلحة، لكن الحقيقة ليست بهذه البشاعة. كيف لم ينجذب هذان العملاقان لبعضهما حتى الآن وهما معشوقا ملايين العرب كل من جهته؟ عبدالناصر من أشد المعجبين بعبدالوهاب أيضا. مرة جديدة يتلامس طيفا العملاقين، كم يرغب في رؤيتهما يعملان معا. سيكون ذلك نموذج اتحاد العالم العربي كله، لم يكن الأمر واردا بالنسبة الى أم كلثوم، فاحترازها من عبدالوهاب لم يتبدد منذ ذلك الموسم الشهير في العام 1927.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق