كيف تتحرر منها؟! النزعة المثالية.. التحليق بدون أجنحة.. بعيداً عن الواقع

الأشخاص الذين يعانون من النزعة المثالية (Perfectionism) يرون العالم كله عبر عدسات غير واقعية ولسان حالهم: “لا بد أن أكون مثالياً، بلا أخطاء”، فيدفعون أنفسهم إلى ما وراء الأفضل! فما النزعة المثالية؟ وما سماتها البارزة؟ وكيف نتخلص منها؟
هناك مثال تقدمه لنا المعالجة النفسية المعروفة “تارا بينيت -جولمان” في كتابها “الكيمياء العاطفية – كيف يمكن للعقل أن يداوي القلب؟”:
انخرطت “شيرلي” باكية في شكوى: “أعمل لساعات وساعات للاستعداد لدروس الموسيقى التي أقدمها، أقوم بتحضير أكبر كثيرا مما يقوم به غيري من المعلمين، وأعطي دروساً أكثر من أي أحد آخر. أعمل على تحضير هذه الدروس بجهد كبير حتى إنني أشعر كأني لم أعد أجد وقتاً لحياتي الخاصة، وبعد ذلك وحين يبدي أحد الآباء أي تعليق سلبي، فإنني أوبخ نفسي عليه لأيام”.
إن جذور هذا النمط من التفكير لدى “شيرلي” تأتي من كلامها عن نفسها: أتذكر حين كنت طفلة، وحين كنت أحضر تقرير الأداء المدرسي الخاص بي للمنزل، كان أبي دائماً ما ينتقدني مهما كانت إجادتي –
وأنا غالبا ما كنت أحصل على تقدير ممتاز، وإذا حصلت ولو على تقدير واحد أقل من ممتاز، كان يسأل عن سبب عدم حصولي على الامتياز، لم يكن أي إنجاز أحققه كافياً بالنسبة له، وما زلت أجد أن أي شيء أفعله ليس بكاف.
إن ذكريات الطفولة الخاصة بـ “شيرلي” تعكس المعايير الصارمة في السعي لتحقيق المثالية، الوالدان اللذان كانا دائمي النقد لأداء الطفلة، مهما كانت إجادتها، يخلقان لديها إحساسا عميقا بعدم الكفاءة، أطفال كهؤلاء يتعلمون من الصغر أن يبقوا في حالة جهاد مستمر، وهو جهد يأملون منه أن يقيهم فقدان حب آبائهم، يكون تقريبا مثل طقس سحري.
الرياضة.. ميداليات وضغوط
مثال آخر تورده لنا تارا بينيت، وهو لعلك شاهدت مسابقة تزلج فني على الجليد. أنت تعرف أن هذه اللاعبة دفعت نفسها إلى ما يفوق حدودها الطبيعية، وقضت ساعات طويلة من التدريب لكي تتقن حركاتها. يخيفك حجم ثقتها والدقة الرائعة في تزلجها، ويذهلك حجم ما يمكن للجسد البشري القيام به من إنجاز.. بعد ذلك، وحين تقدم على قفزة “لوتز” الثلاثية، تصدم حين تفقد اتزانها وتتعثر على الثلج. سرعان ما تتدارك الأمر وتواصل التزلج، باذلة كل جهدها فيما تبقى من عرضها، لكن في النهاية لا يكون التصفيق كامل الحماسة، وتبدو هي محبطة.
تستمع إلى المذيع وهو يحلل أخطاءها بنبرة تخلط بين الندم وإصدار الحكم. ترى المتزلجة وهي تكبح دموعها على جانب الملعب، وإحباطها من نفسها لا حد له، لا أحد – ولا حتى هي – أثنت على نسبة الـ 89% من أدائها والتي كانت مذهلة فيها، كان التركيز منصباً على لحظة الفشل فحسب!
وهناك سمات محددة للنزعة إلى المثالية أو الكمال، ومنها:
• النزعة المثالية.. طريق الوهم إلى الحب والقبول!
الأساس العاطفي لهذا التفكير هو الإحساس بالفشل مهما حاولت العمل بجهد، ومن وراء هذا الشعور، هناك حزن دفين من أنك لا بد أن تفعل الأفضل دائماً حتى تحظى بحب والديك وتأييدهما، يلحق هذا حزن ناجم عن عدم القبول بك كما أنت، بل فقط لما تؤديه.
• النزعة المثالية عدسات أكبر من الواقع.. نرى بها العالم!
الأشخاص الذين يعانون من النزعة المثالية يرون العالم كله عبر عدسات التطلعات العالية غير الواقعية، شعارهم يقول:
”لا بد أن أكون مثالياً”، والذين يتبنون هذا التوجه يدفعون أنفسهم نحو الأفضل وما بعد الأفضل، وهم صارمون جداً في إلزام أنفسهم بالمعايير الأعلى.
وقد يعود ذلك بمنافع من باب الإنجاز في العمل، أو الرياضة أو غير ذلك من مجالات.
إن تحدي عاداتك القديمة المثالية أو فرض المستحيل على النتائج في كل كبيرة وصغيرة يضع حياتك في توازن أكثر صحة ويمنحك الاستمتاع بمباهج حياتك
• النزعة المثالية.. حياة بلا مباهج!
ولكي يحد هؤلاء من النقد المُوجّه إليهم، يدفع هؤلاء الأشخاص أنفسهم للعمل بجد أكبر كثيرا مما يجب عليهم فعلاً، لكن مهما كان قدر إجادتهم، فإنه لا يكون جيدا أبدا بما يكفي، وهكذا يبقى هؤلاء في حالة لا تهدأ ولا ترتاح من الدفع لأنفسهم نحو العمل والإنجاز حتى تتأثر بقية جوانب حياتهم: صحتهم، علاقاتهم، قدرتهم على الاستمتاع بمباهج الحياة. إن الطريقة التي يدفعون بها أنفسهم تزيد من مخاطر الإصابة بالاضطرابات المتعلقة بالتوتر مثل القولون أو الصداع الإجهادي، وبينما تسهل إصابة الشخص المثالي بنفاد الصبر والتوتر، فإن الشعور المحلق في الخلفية يكون الحزن، الحزن على خسارة الحياة بالبقاء في انشغال دائم.
فمن بين علامات تفكير المثالية الشعور الدائم بأن عليك أن تظل تضغط وتضغط على نفسك لتفعل ما هو أفضل أو ما هو أكثر.
• النزعة المثالية.. إدمان للعمل.. بلا حياة!
يدفعنا تفكير النزعة المثالية لتوقع ما هو أكبر من اللازم، ويدفعنا لإدمان العمل، فالمرأة التي تبقى في المكتب كل ليلة لتدفع نفسها إلى مزيد من العمل، بعد وقت طويل جدا من انصراف باقي الموظفين، قد تحقق نتائج أفضل على صعيد عملها نتيجة لهذا الجهد، لكن مهما كان حجم إجادتها، فإنها تضغط على نفسها لفعل المزيد، وجهدها للحفاظ على المعايير لا تنخفض أبداً، يعني أنها لن تحظى بحياة خارج إطار العمل.
قد يقودك تفكير المثالية للضغط على نفسك في الرياضة، أو في الدراسة، أو في المظهر الجسدي، أو في المكانة الاجتماعية، أو حتى في امتلاك أفضل المنازل قيمة وشكلا.
• النزعة المثالية ترفع لافتة: «الخطأ.. ممنوع منعاً باتاً»!
إن المنظور المشوه لتفكير المثالية يُركز على ما هو خطأ فيما تفعل. إن أي خطأ في أدائك، أي خطأ صغير تقع فيه، هو ما سوف يستحوذ على كل تفكيرك، نقدك ولومك لذاتك سيكونان بلا رحمة.
• النزعة المثالية.. علاقات العين الناقدة!
بعض المثاليين يحاولون وضع الآخرين تحت طائلة المعايير الخيالية التي يلزمون بها أنفسهم، ونتيجة لذلك، فإنهم غالباً ما ينتقدون الآخرين على ما يتصورونه فشلا، حتى لو كان هؤلاء قد قدموا عملا دقيقا تماما، أو أنهم يرون العمل بمنظور مختلف فحسب.
إن العين الناقدة قد تلقي الضوء على أي موقف، باحثة دائماً عن العيوب، المصابون بهذا المخطط غالباً ما يخلطون بين الخط الدقيق الفاصل بين الفهم المناسب للعمل والرأي المنطوي على حكم شخصي، إنهم يرون نقدهم صحيحاً ومناسباً.
• النزعة المثالية.. قلق واكتئاب!
ثمة علامة أخرى هي القلق من أن الوقت أقل مما هو لازم لإنجاز كل شيء رتبت لفعله بنفسك، وعلامة أخرى هي الكآبة التي تعتريك بشأن أعمالك، وهذا ما يحول مشروع عمل ممتع، مثل التدريب في صالة الألعاب، إلى مجرد ساحة إنجاز متوترة. إن هذه المثالية تقضي على المتعة في الحياة. والباحثون عن المثالية قد يتصورون أنهم يوما ما في المستقبل سيتمكنون فيه من الاستمتاع بحياتهم، لكنه دائماً ما يؤجل هذا الاحتفال.
• النزعة المثالية.. نظارة سوداء!
التفكير المثالي يضعنا في عالم ضيق خانق ينشأ كلما سيطرت المثالية على أذهاننا، والنتيجة قريبة من حالة سيطرة تملي علينا التفكير السلبي، وتصبح المثالية هي النظارة التي نرى من خلالها الواقع، وتكون لديها القدرة على اختيار ما ننتبه له وما نتجاهله، دون أن نعي هذا الدور الذي تقوم به. الطريقة التي تعرض النزعة المثالية لنا بها الحقيقة تبدو كأنها حقيقة بالفعل، فالخطأ الوحيد يبدو ضخما في نظر الشخص الميال للمثالية، والذي ينسى كم كانت روعة أدائه.
الحل.. بالوعي الجديد
إن كان تفكير المثالية منطبقاً عليك، فإن الوعي قد يساعدك على تحدي نوع التفكير المشوه هذا والنقد والتوبيخ الذاتي، وكلها تحرك فيك السعي للمثالية، وأن تنتبه لنفسك قبل أن تعود مرة ثانية للضغط على نفسك في العمل. إن التفكير فيما أدت بك النزعة المثالية هو بداية جديدة أو خطوة أولى لتحرير أنفسنا من تلك السجون الذهنية.
الحل.. بتخفيض معاييرك المستحيلة!
عليك أن تدرك أن خفض مستوى معاييرك المستحيلة للنجاح والإتقان والعمل والإنجاز في جميع الأحوال والظروف دون مراعاة قدراتك الطبيعية أو ظروفك أو ضغوطاتك، سيكون راحة لك، وسيتيح لك فرصة لتلبية بقية الحاجات.
الحل.. بتحدي عاداتك القديمة
إن تحدي العادات القديمة المثالية أو فرض المستحيل على النتائج في كل كبيرة وصغيرة يضع حياتك في توازن أكثر صحة، ويمنحك وقفة تستمتع فيها بمباهج حياتك.