م. سارة أكبر «رقم وطني.. علمي.. نفطي» نعتز به وهي «القدوة الحقيقية» كما لمسنا ذلك من الشباب والفتيات الذين كانوا يستمعون لها كقائدة ببطولتها الفذة وهي تخوض في بحيرات النفط المشتعلة وسط الألغام لتطفئ البئر تلو البئر بروح المغامر والتفوق المهني.
وسردت أكبر قصة إطفاء الآبار، مسترجعة شريط الذكريات في حديث بعنوان رحلة شغف قامت على تنظيمها مؤسسة شغف وكأنها تعيش اللحظة، مشيرة في كل كلمة إلى العزم والإصرار النابع من وطنية حقيقية، تمثّلت بخوض المخاطر لأجل إطفاء حرائق النفط، وليس هذا من باب المبالغة إنما هي كلمات قليلة لا تصف الملحمة الوطنية التي أحدثتها م. سارة أكبر في قلوب ونفوس الحضور.
ومن موقع نشاطها واهتمامها الاقتصادي، بيّنت أكبر أن الكويت بحاجة لإرادة التنفيذ؛ فالخطط والدراسات موجودة، ملمحة إلى أن الكويتيين رسخوا في إطفاء الآبار نموذجا حيا لتمكنهم من تخطي الصعاب، والكويت بحاجة لتكرار هذا النموذج اليوم.
في بداية حديثها قالت صحيح أنني أحببت تخصص الهندسة منذ الصغر، إلا أنّ عشق التخصص في هندسة البترول ترعرع معي منذ أن كنت صغيرة، حيث كنا دائماً بالقرب من حقول النفط، وكانت مرابع لهونا، ولعبنا هي المساحات الفارغة بين المصافي، وكان الهواء الذي أستنشقه مشبعاً بروائح النفط، وكان المنظر الذي أصحو عليه كل صباح هو مشاعل الغاز المحترقة.
لذا لم يكن غريباً أن ألتحق بعد إكمالي الشهادة الثانوية بجامعة الكويت، وانضم إلى أول دفعة من طالبات الهندسة الكيميائية بالجامعة، وأتخرج بتفوق في عام 1981 لأبدأ بعده مسيرة تطبيق ما تعلمته ميدانياً من خلال العمل في حقول بلادي النفطية، انطلاقا من إيماني القوي بأن المهندس المبدع لا بد أن يكون على رأس عمله، وأنْ ينزل للمعمل والمشروع والمنشأة والحقل النفطي وغيرها من مجالات عمله ليكتسب خبراته بشكل مباشر ويطبق ما تعلمه في الجامعة، وليعيش روح العمل الجماعي، ويتعرف على كل ما يمكن أن يواجهه أثناء التنفيذ، وليضمن أفضل أداء.
نزولي كمهندسة إلى العمل الميداني في الحقول البترولية لم يكن سهلا، وتطلب منى الإصرار والعزيمة وتكرار المحاولة تلو المحاولة، لأن رؤسائي الذكور لم يكونوا واثقين من قدراتي، وكانوا يخافون أن يحدث لي مكروه فيتحملون المسؤولية، لكنهم اضطروا في نهاية الأمر لأن يستجيبوا لإلحاحي، فقمت بأولى مهامي الميدانية، وكان حقلا في وسط البحر، وكانت لمدة يومين قضيتها في الحقول النفطية المغمورة. وبهذه الخطوة استطعت أن أكسر القيود الكثيرة التي فرضتها شركة نفط الكويت على عملي مهندسة، وأن أخلق لنفسي صيتا ووضعا متميزا.
ماذا عن وجودك في الكويت في فترة الغزو؟ كيف استطعت السيطرة على مشاعرك وتصرفاتك في ظل هذه الأزمة؟
- في وقت الأزمات الشديدة مثل ما حدث للكويت في الغزو، يفقد الإنسان الإحساس؛ لأنه يفقد الشعور بالأمان، فكانت لي أولويات وهي في الحقيقة مسؤوليات لا بد أن أقوم بها وبالتالي لا وقت للتفكير في المشاعر، صدرت لنا أوامر من القيادة العليا بأنْ نبقى في أماكننا لمحاولة تقليل الخسائر.. كان لا بد من استمرارنا في العمل؛ لأن محطات الماء والكهرباء تعتمد على ما ننتجه، فإذا توقف الإنتاج، فإن الماء والكهرباء سيتوقفان. كانت مهمتنا أساسية من أجل حياة الكويتيين الباقين في الكويت. كنا نحو أربعين شخصا، نرسل تقارير يومية للقيادة الكويتية في الخارج عن كل ما يحدث داخل الشركة. لقد بقيت أعمل حتى يوم 15 يناير (1991) وشاهدتُ أثناء ذلك تلغيم آبار النفط في أول أسبوع بعد الغزو، كما شاهدت تفجيرها قبل رحيل العراقيين.
هل راودك الشعور بالخوف من الموت؟
- كنت أتسلل إلى مقر الشركة في الأحمدي، رغم الحصار المفروض على المقر من قبل القوات العراقية، وقمت بإخفاء أشرطة الميكروفيلم والتقارير السرية الخاصة بشركة نفط الكويت عن العراقيين في منزلي، وجعلت عليها حراسة مكونة من شخصيين، وانتقلت مع الأهل لمنزل آخر، وكنت يوميا أذهب للمنزل حاملة الأكل والماء، وكل ما تحتاج إليه الحراسة، وللاطمئنان على أوراق الشركة، وفي يوم من الأيام سقطت قذيفة على المنزل، ولم أكن أعلم، وعندما ذهبت وجد منزل جيراننا مهدما وباب منزلنا سقط وخلفه الشخصان في حالة هلع والمياه أوشكت على النفاد بسبب حدوث كسر في “التنكر” مخزن الماء، والغريب أنني وجدت علبة صغيرة أمام باب المنزل ضمن الهدم والأشياء المكسرة، فقمت بالتقاطها وإلقائها بعيدا في حديقة المنزل، وعبرت للداخل ولم أكترث لأكتشف فيما بعد أن ما ألقيته كان عبارة عن قنبلة لم تكن انفجرت حينها، وانفجرت فيما بعد.
لذلك لدي قناعة بأن الله لم يكتب قدري وموتي حينها ربما لسبب ما مثل إطفاء الآبار، وأن عمري مكتوب منذ مولدي عند ربي، ولذلك لماذا أشعر بالخوف وهو قدر مكتوب لا فرار منه، والمطلوب مني هو العمل والاجتهاد إلى أن يحين القدر.
كنا نعد الطعام على الخشب والفحم لعدم وجود غاز حتى (الصمون) افتقدناه خلال تلك الفترة
وعن ظروف تفجير آبار النفط الكويتية، قالت: كنت أسكن قريبا جدا من الحقول، وفي ظهر يوم 18 فبراير سمعتُ صوت طلقات، خرجتُ لأستوضح ما يحدث فرأيت العراقيين يطلقون نارا في الجو.. أرسلتُ أخي الصغير ليسألهم فقالوا له: خلاص راح نرجع العراق. فرحنا وقلنا خوش خبر، ولكن سمعنا صوت انفجار، فالتفتنا نحو الحقول لنجد الدخان الأسود الكثيف يخرج منها، وبعد قليل سمعنا انفجارا آخر وهكذا. أخذتُ أمي داخل سيارتي وهربنا من ملاحقة العراقيين، واختبأنا إلى أنْ رحلوا،
كانت الآبار مثل الشمعات الصغيرة المشتعلة، منظر لم أتخيله أبدا.
استكملت م. سارة المشهد بعد دحر القوات العراقية وانسحابها، فقالت:
كانت فترة عصيبة أولا في ظل قوات الاحتلال، ومن ثم بعد هزيمتهم، حيث الدخان الأسود الناتج عن حرائق آبار النفط يغطي السماء، ويحجب نور الشمس ولا وجود للكهرباء والماء، ورغم ذلك أنستنا فرحة النصر والتحرير المعاناة الناتجة من ذلك، حيث كنا نعد الطعام على الخشب والفحم لعدم وجود غاز، حتى (الصمون) افتقدناه خلال تلك الفترة، لأن الأفران كانت تنتج الخبز فقط، ولذلك كان للصمون استقبال خاص عندما بدأ يحضره معهم العائدون إلى الكويت، وكذلك الأمر بالنسبة للموز.
بعيدا عن هذه التفاصيل كان رمضان في عام 1991 مميزا، حيث استعدنا صورة الماضي، حيث الأطباق بسيطة ومعدودة على مائدة إفطار رمضان، والعائلة كلها تجتمع حولها، أما في النهار، فكنت أعمل يوميا نحو 8 – 9 ساعات مع الفريق الخاص بمسح حقول النفط، وكنت أترأس فريق حقول شمال الكويت لإعداد تقارير عن وضع الآبار والمنشآت لإعداد الخطط الخاصة بإطفاء الحرائق وإعادة الترميم، وكنا كلنا صائمين، وأتذكر أنه في إحدى جولاتنا وصلنا إلى قرب إحدى الآبار التي يتفجر منها النفط الخام، حيث لم تكن محترقة، وكان معي عبدالرحيم قاسم حيث قام بإغلاقها، ولم يبال بالنفط الذي يتدفق عليه وغطاه كليا، خلال هذه اللحظات التفت فوجدت خندقا ترك فيه الجنود العراقيون بعض معدات الحرب الكيماوية ومنها ثياب، فأخذت ثوبا وأعطيته له، ولبسه في طريق عودتنا، وفي اليوم التالي كنت أشعر بالدوخة، ورغم ذلك قمنا بجولتنا التفقدية المعتادة، وبطبيعة الحال فمن عاش مثل هذه الظروف والمشاهد الصادمة غير المتوقعة فلا بد أن يشعر بالزهو.
حقل أم قدير وحده كان يحتوي على 20 مليون لغم تحت الأرض
ماذا عن أبرز الصعوبات التي واجهتك في إطفاء آبار النفط عقب الغزو العراقي على الكويت؟
- أول ما قمت به بعد الغزو مساندة الفرق العالمية التي توافدت على الكويت، وقبل ذلك كانت لدينا خطط لكيفية التعامل مع الآبار المحترقة، وشكّلنا 4 فرق لذلك: فريقاً للمنطقة الغربية، وآخر للشمال، وفريقاً لحقل برقان، وفريقاً للأحمدي والمقوع، وكنت أنا رئيسة فريق الشمال، برفقة شابين: هما عبدالرحيم قاسم، وعبداللطيف محمود. ووقتها لم تكن لدينا سيارات وأحضروا لنا 41 سيارة جيب من السعودية، وعند مسحنا للمنطقة الشمالية اكتشفنا أن 85% من الآبار محترقة، وأثناء مسحنا المنطقة اكتشفنا كمّاً هائلاً من الأسلحة والمتفجّرات، إلى درجة أنه كانت هناك متفجرات وصواعق وسيفور وديناميت موضوعة على بعض الآبار، ولكنها لم تنفجر بعد، وعملنا على تنظيف المنطقة؛ فحقل أم قدير وحده كان يحتوي على 20 مليون لغم تحت الأرض، ويمكن القول إن العمل كان يحتوي على أعلى نسبة مخاطرة.
وكيف كنت تتعاملين مع هذه الخطورة؟
- كان علينا الحذر والحرص، ولا ندخل مكاناً إلا بعد التمشيط والفحص. ومن الأساليب لذلك، كنا نرسل “بلدوزر” في المنطقة قبل أن ندخلها، إضافة إلى ذلك، فكان معنا في فرق الإطفاء أعضاء فرق سلاح الهندسة بالتجنيد، وكانوا مهيئين للعمل مع مخلّفات الحرب.
وماذا عن الصعوبات الأخرى؟
- الأمر الخطر الآخر كان الدخان الكثيف، والغازات السامة، خاصة في غرب البلاد؛ فعلى سبيل المثال، غاز H2S إذا كان بكمية قليلة يمكن شمّه، ولكن في كميات كبيرة منه لا يُشم، ولكنه قاتل، ولولا تعاون الفريق والعمل بقلب واحد لما استطعنا الإنجاز، خاصة عندما لا تطفأ البئر من أول محاولة، ونضطر إلى تكرارها، بعزم وإصرار. فعلى سبيل المثال، هناك بئر 160 لم نطفئها إلا بالمحاولة الثالثة.
أطفأنا البئر الأولى خلال 15 دقيقة ولم نصدق لأن الفرق الأجنبية كانت تستغرق وقتاً طويلاً
ماذا عن إطفاء أول بئر؟
- كان لسمو الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح – رحمه الله – موقف كبير حينها بجعل الأمر من خلال القطاع النفطي الحكومي، فصدر بناء على توجيهه السامي قرار من مجلس إدارة، “نفط الكويت” في يوليو 1991 بتشكيل فريق كويتي للإطفاء، وتعيين بويابس رئيساً للفريق. وكانت مهمتي تشكيل فريق كويتي لإطفاء الآبار، وذهبنا مع الراغبين، واتفقنا على العدد والأعضاء.
كنت ضمن الفريق الكويتي المكون من 26 فردا، وبعد ذهابنا إلى حقل برقان أصبحنا 29 فردا من “نفط الكويت”.
عندما ذهبنا إلى حقل أم قدير كان هناك حقل ألغام، ولذلك كنا حذرين، فلم نخرج عن الطريق المؤمن.. ذهبنا بالسيارة على خط محدد وعدنا منه، والحمد لله أن الأمور مرت بسلام.
كانت النظرة إلينا في البداية على أننا فريق هواة، ولم تكن الفرق الأجنبية تنظر إلينا بجدية، ولم نكن نلقى الكثير من التشجيع، وحتى معدات الإطفاء الحديثة لم تكن تأتي إلينا، بل كانت تذهب إلى الفرق الأجنبية. فاضطررنا إلى تصنيع الكثير من المعدات والخزانات بأنفسنا، أو إصلاح معدات متوافرة لدى “نفط الكويت”.
وبدأنا بإحدى الآبار في أم قدير كتجربة، باعتبارنا فريقاً مبتدئاً، وكان الأمر تحدياً بالنسبة لنا.. كان ذلك في الساعة 11 و45 دقيقة، أي قبل ربع ساعة من دخول تاريخ 14 سبتمبر 1991، وهو التاريخ الرسمي لبدء عمل الفريق الكويتي.
كانت المفاجأة أننا أطفأنا البئر الأولى خلال 15 دقيقة ولم نصدق، خصوصاً أن الفرق الأخرى الأجنبية كانت تستغرق وقتاً طويلاً.
لكن ظهرت مشكلة أخرى، فبعد إطفاء النار حل الظلام، وبدأ النفط يتدفق إلى السطح، ومعه الغاز السام جداً.. كان علينا أن نتصرّف سريعاً؛ لأن استمرار التدفق من شأنه أن يكوّن بحيرة نفطية، تؤدي إلى انتشار الغازات إلى مناطق واسعة وتسبب الاختناقات.
لم يكن أمامنا ساعتها إلا إعادة إشعال النار في البئر، لكننا كنا قد عرفنا أن الإطفاء ممكن خلال 15 دقيقة فقط، وهذا ما فعلناه في اليوم التالي.
كانت عمليات الإطفاء تمر بثلاث مراحل؛ تبدأ بإطفاء الحريق، ثم إصلاح الرؤوس المدمرة وتأمينها بشكل سليم، وأخيراً بناء رؤوس الآبار من جديد.
ومع إطفاء البئر الأولى انكسر الحاجز النفسي، واكتشفنا أن المسألة ليست بالصعوبة التي تخيلناها قبل العمل أو التي صورت لنا، وقد يكون من حسن حظنا أن المهمة الأولى سارت بسهولة، إلا أننا تلقينا دفعة معنوية كبيرة.
وتمكنّا من إطفاء 41 بئرا خلال 45 يوما، وكان متوسط الوقت الذي يستغرقه إطفاء البئر الواحدة 25 إلى 26 ساعة، بينما كان أقرب فريق لنا من الفرق الأجنبية المحترفة يطفئ البئر خلال 48 ساعة في المتوسط.
لم أندم يوما أنني أعطيت وطني من عمري ووقتي وجهدي
كيف كنت توفقين بين عملك وبيتك وأسرتك في ظل كل هذا العمل المتواصل؟ وماذا عن علاقتك بالمطبخ؟
- أخرت فكرة الزواج، وفي فترة الغزو لم أكن متزوجة، وبعدها تزوجت وأنجبت ولله الحمد، ولم أندم يوما أنني أعطيت وطني من عمري ووقتي وجهدي، وها أنا شيف وأعشق الطبخ، ومشهورة بطبخ مجبوس اللحم ومرقة البامية.