أحيانًا يكون الأقارب سُمًّا أقرب إلينا من الوريد المحامية مريم البحر: العنف الأسري.. نزيف داخلي في جسد المجتمع

المحاماة ملاذ ومروءة وفن قبل أن تكون مهنة.. وليس المحامون كلهم محامين بالضرورة.. ليس عمل المحامي فقط
معرفة القانون، فالكثير يعرف النصوص حتى من غير المحامين، لكن حقيقة المحامي تكمن في دراسة الوقائع دراسة قانونية والنظر إلى ما يمثل هذه الوقائع في نصوص القانون.. المحاماة فن الحجة والجدل والبرهان والإقناع.. وليس من عمل المحامين قلب الثوابت أو تضليل الحقائق؛ لأن المحامي قبل ذلك كله إنســان لا يكسب دعوى ويخسر نفسه.
الضحية تحولت إلى متهمة!
يقال في المثل «الظفر ما يطلع من اللحم».. وبعض الأهالي أثبتوا لنا خطأ هذه المقولة.. وبجدارة!!
وهذا نراه في قضيتنا الأولى لعائلة بها أب وأم وأشقاء تكالبوا على ابنتهم لاستغلالها.. هذه الفتاة لم تكن تتخيل يومًا أن يتحول بيتها إلى سجن، وأن يتحول أهلها إلى جلادين.. كانت تظن أن «الدم ما يصير ماء»، وأن أهلها هم السند، والحضن الدافئ وقت الضيق.. لكن ما واجهته، لم يكن إلا خذلانًا متوحشًا في أبشع صوره.
بدأت الحكاية عندما قررت أن تقول: «لا».. رفضت أن يستنزف أكثر راتبها، مالها، راحتها النفسية.. كل ذلك كان يُؤخذ منها بلا رحمة، وبلا تقدير.. وعندما تمردت على استغلالهم، لم تجد سوى الضرب والإهانة والشتائم، حتى كُسرت عظامها، وكُسر معها شيء عميق بداخلها.
ولم تجد الفتاة بُدًّا ولا حلا سوى أن تلجأ إلى الشرطة، وتقدم بلاغا بالاعتداء عليها؛ عسى أن تجد الحماية، ولكنها رق قلبها.. ورغم كل ذلك، سامحت.. نعم، سامحتهم.. وقفت أمام القاضي، وتنازلت عن حقها، فقط لأنها أرادت أن تحيا في بيت هادئ، تتنفس فيه بعض السلام.. لكنها لم تكن تعلم أن من يؤذي بهذا القدر لا يعرف للسلام طريقًا.
لم يمسح ذلك من سواد قلوبهم شيئا، بل إنهم استغلوا وجودها في منزلهم، وحبسوها لمدة عشرة أيام، وصادروا هاتفها النقال، وأبدع ذهنهم الشيطاني في فبركة حساب على أحد مواقع التواصل الاجتماعي يحمل اسم ابنتهم لينشروا صوراً مخلة بالآداب من هذا الحساب واستغلال الهاتف بطريقة غير قانونية، ويتقدموا ببلاغ ضدها أنها تنشر صوراً مخلة بالآداب.
وهنا تحوّلت الفتاة من ضحية إلى متهمة، حيث وجهت إليها النيابة العامة تهمتي نشر الصور المخلة وإساءة استعمال الهاتف، وطلبت عقابها بالجناية والجنحة المؤثمة بالقانون ٣٧ لسنة ٢٠١٤.
وما لم يعرفه خصومها أن الحق لا يُدفن.. فعندما تحدثت مع موكلتي علمت أنها كانت قد أخبرت شقيقتها الأخرى «إذا لم أتواصل معك خلال وجودي في منزل أهلي، فعليك مباشرة التقديم ببلاغ أمام الشرطة»، وكان ذلك الإجراء تحسبا لما وجدته بالفعل، حيث حبست من قبل أهلها والسيطرة على هاتفها، وتم إثبات ذلك، وجاء فعل الأب تجاه الشقيقة الأخرى أن اعتدى عليها بالضرب رغم أنها حامل.
وهنا دفعت كمحامية عن موكلتي بانقطاع صلتها بالحساب وبانتفاء أركان جريمتي نشر الصور المخلة وإساءة استعمال الهاتف بركنيها المادي والمعنوي، وفي النهاية نطقت المحكمة بالحق: براءة.. براءة فتاة لم يكن ذنبها سوى أنها أرادت أن تحيا بكرامة، وأن تحتفظ بإنسانيتها وسط من كان يجب أن يكونوا أهلها.
عندما يتحول قلب الأم لحجر
في القضية الثانية، وتحمل في طيّاتها الكثير من الألم والخذلان، لا ننسى الفتاة التي لمحها أحد المارة، تمشي وحدها على الواجهة البحرية، حافية القدمين، عيناها تبحثان عن أمان لا تعرف له طريقاً.
اقترب منها رجال الأمن.. لم تصرخ، لم تبكِ، فقط نظرت إليهم بخوف وارتباك.. آثار الضرب كانت واضحة على ذراعيها ووجهها، وعندما سُئلت عما حدث، خفضت رأسها وقالت: «أمي طقتني، وطردتني»!
كانت تحاول الكذب.. لا تريد العودة، لا إلى الاسم، ولا إلى العنوان، ولا إلى ذلك الباب الذي يُفتح على بيت لا يشبه البيوت.. لكن الحقيقة كانت أثقل من أن تُخبّأ، فاعترفت باسمها ومكان سكنها.
حين اتصل الأمن بالأم، جاءت المفاجأة القاسية.. «ما أبيها، دقوا على أبوها.. خلاص، ما أتحمّلها بعد».
هكذا.. ببساطة، بعد أن أنجبتها، وربّتها، ثم ضجرت منها، قررت أن تتخلى عنها، كما تُرمى الأشياء القديمة من النوافذ.
النيابة لم تتردد، وسجّلت القضية جناية.. ضرب طفلة وطردها ورفض تسلّمها.. لكن الطفلة لم تسجّل شيئًا.. كل ما سُجِّل في قلبها أن أمها لم تكن تريدها.