بعشرة قروش أسست ورشتها للمصنوعات الجلدية.. ولجائزة الأم المثالية الست وجيهة عبدالجواد: أبي تجاهل تسجيلي واستخراج شهادة ميلاد لي لأنني فتاة

بيقين راسخ بالله وإيمان يظهر جلياً في كلماتها باستمرار وإمارات الإرادة والرغبة التي لا تفارق عينيها، نجحت السيدة وجيهة عبد الجواد بورشتها للمصنوعات الجلدية في تربية أبنائها الثلاثة، بل وصلت منتجاتها إلى كل أنحاء مصر، وعرضت في عدد من دول العالم. مسيرة امتدت لما يزيد على ثلاثين عاماً للست وجيهة جعلتها تتأكد أن السيدات لديهن عقل راجح، وأن نظرة المجتمع لهن قاصرة. وتحكي لنا وجيهة عبد الجواد في لقائنا معها قصتها الملهمة التي بدأت بورشة صغيرة لتصل إلى أربع ورش، وكيف جعلتها ورشتها للمصنوعات الجلدية تصل إلى لقب الأم المثالية.
في بداية حديثها تستذكر وجيهة الظروف القاسية التي طالتها منذ مجيئها الحياة، إذ وصفت نفسها بـ “ضحية الجهل” الذي يسيطر على بعض أفراد المجتمع، وتقول:” لم يعترف أبي عند ولادتي بتسجيلي وتجاهل استخراج شهادة ميلاد لي لأنني فتاة، وهو ما أعتبره ظلما لي منذ بداية حياتي. فكان أبي ينتظر قدومي كولد، ولكن عندما عرف أنني بنت لم يستخرج لي شهادة ميلاد، فما ذنبي في هذا؟”.
بدأت بالاتجاه إلى صناعة المنتجات الجلدية مع انتشار الملابس الجاهزة وتوقفي عن الخياطة
لم يتوقف الأمر عند طفولتها، إذ لازمها الظلم المجتمعي فيما بعد حين أراد أبوه تزويجها، ولم يأخذ برأيها الرافض للزواج في حينها لتحمل عبء أسرة سيغيب عنها معيلها، “عندما تزوجت ذهبت للوحدة الصحية للتسنين وأعطاني الطبيب سنا أصغر من سني الحقيقية، كما كان تفكير أبي مخطئا في تزويجي لرجل لم يبدأ حياته العملية بعد، وعندما اعترضت على زواجي قوبلت بالرفض، ولم يسمع لرأيي”.
وبعد فترة قصيرة من زواجها مع انتقالها للقاهرة من بلدتها أصبحت وجيهة مسؤولة عن بيتها وأسرتها نظرا لخدمة زوجها في الجيش وغيابه فترة طويلة، وتوضح وجيهة أن أباها عرض عليها في هذا الوقت أن تعيش معهم ببيت العائلة أثناء غياب زوجها عن البيت لكنها رفضت، قائلة: “أرغب في أن يربى أبنائي في بيتهم الخاص، دون أن يكون لأحد عليهم فضل، أو يتعرضوا لموقف ظالم كما مررت في حياتي حتى لا تكون عيونهم مكسورة”.
ولرغبتها في توفير دخل لأسرتها وتربية ابنها بدأت في التفكير بمصدر لدخل الأسرة: “فكرت في مشروع صغير يمكنني من خلاله إعالة نفسي وابني، دخلت جمعية بعشرة قروش مع جيراني كنت أدخرها من معاش زوجي كمجند وحين تحصلت على أول قسط من الجمعية اشتريت مجموعة من الأقمشة وبدأت أعمل على ماكينة الخياطة”.
لكن عقبة جديدة اصطدمت بها وجيهة في بدء مشروعها، إذ لم تتعلم القص والتفصيل، رغم امتلاكها لماكينة الخياطة وهو ما جعلها تتوجه إلى مركز المرج بشمال القاهرة، الحي الذي تقطن به، لتتعلم مبادئ الخياطة استعدادا لمشروعها “كنت باستمرار أطبق ما أتعلمه في المركز على ماكينة الخياطة الخاصة بي وبدأت في خياطة الملابس لزبائن من مختلف مناطق القاهرة والجيزة، وكان العمل جيدا حتى أواخر التسعينيات”.
ومجددا تظهر أمام وجيهة عثرة تجعلها توقف عملها لفترة إذ تقول: “في أواخر التسعينيات ومع انتشار الملابس الجاهزة، تقلص عدد الزبائن، وتوقفت لمدة شهرين أو ثلاثة، لكن ذلك لم يجعلني أتوقف بل بحثت عن صنعة جديدة أتعلمها، ومن هنا كانت بدايتي مع صناعة الجلود”.
واستهلت وجيهة تصميم الجلود بالتعلم كما اشترت ماكينة جديدة بالقسط، وعملت عليها في مقابل تسديد الأقساط “تعلمت كذلك القراءة والكتابة وما يفيدني في عملي وفي الحياة. كان أطفالي صغاراً في هذا الوقت، وأخذت من التعليم ما يفيدني مثل كتابة الخامات والحسابات، وكنت سعيدة لأنني أعمل في شقتي دون ترك أولادي والاضطرار للخروج بعيدا عنهم”.
أول مرة أتلقى ألف جنيه حين طلب مني تصنيع 4 آلاف قطعة جلدية!
ولدى وجيهة ثلاثة أبناء في صغرهم كانوا يساعدونها في العمل، إلى جانب عدد من أطفال المنطقة من زملاء أبنائها، وتعلموا صنعة تصنيع الجلود، وما زال بعضهم يعمل في ورشها للمنتجات الجلدية.
مع العمل الدؤوب للسيدة وجيهة جاءت القفزة التي مكنتها من تحقيق مكاسب لم تكن تتخيلها، وكان ذلك حين أعجبت مشغولاتها الجلدية شركة سياحية تواصلت معها لتصنع لهم 4 آلاف قطعة من مشغولاتها “كان هذا الطلب باب رزق لي وأول مشروع كبير أدخل به. وما زلت أذكر أنها كانت المرة الأولى في حياتي التي أمسك بها ألف جنيه في هذا المشروع، واشتريت ماكينة جديدة. وبعدها تتابعت الطلبات، ووصلت مشغولاتي لعدد من الدول العربية والأوروبية مثل السعودية والإمارات والسويد أيضا”.
تؤكد السيدة الخمسينية أن كرم الله وحده هو ما جعلها تشهد هذا النجاح في عملها، قائلة: “فتح الله عليّ من حيث لا أدري، وكان الرزق والخير يأتيني من عند الله، لأن قلبي كان مليئا بالعمار مع الله واتخذه سندي، فلا يخذل الله أبداً أي شخص كان مخلصا له. وأحمد الله مع الوقت أصبح لدي الآن أربع ورش للمشغولات والصناعات الجلدية”.
ورغم وقوفها إلى جانب زوجها في أثناء خدمته بالجيش، فإنه بعد قضاء خدمته ومع الوقت حين وجد أن الحياة تسير ارتكن للكسل ولم يعمل، ولذلك حصل الانفصال: “اخترت الانفصال أفضل من حدوث أي تصرف خاطئ يتسبب في مشكلات لأبنائي فيما بعد”.
وفي عام 2009 اشترت وجيهة لابنها الكبير، محمد، أرضا استعداداً لبناء مصنع للمشغولات الجلدية. وكانت تهدف لجمع شباب المنطقة لتعليمهم حرفة صناعة الجلود وتوفير فرصة عمل لهم، غير أن وجيهة كانت على موعد مع حادثة ستغير مسار حياتها وحياة أسرتها، ويحول حلمها إلى ألم ثقيل: “مع الأسف عند تسلم الأرض اكتشفنا أننا وقعنا ضحية مافيا سرقة الأراضي، وتعرضنا لعملية نصب كبيرة. كان ابني محمد وقتها في ذروة شبابه بأوائل العشرينيات حينها أصر على الحصول على الأرض أو استرداد الأموال ونتيجة لهذا نصبت له هذه العصابة كمينا وتعرضوا له”.
كنت أستعد لإقامة مصنع حين تعرض ابني لحادثة وسرقت منا أرضنا
وتستذكر الست وجيهة الحادثة، وتغالبها الدموع وتقول: “حتى الآن أذكر الساعة والتاريخ، ففي يوم 17 يناير 2010 استدرجت مجموعة من الرجال ابني الأكبر محمد والشوارع فارغة، زاعمين أن هناك من يطلب أحد مشغولاتنا الجلدية، ولكن للأسف حين ذهب إليهم وجد مجموعة من الرجال الذين هجموا عليه، وهدده أحدهم بالمسدس أيضا، ونتجت الحادثة عن إصابة مستديمة في يد محمد اليمنى حتى الآن لم تعد إلى طبيعتها، وكانت على وشك البتر”.
وقررت وجيهة أن تخوض “حرباً” كما وصفت ضد من سرقوا أرضها وأصابوا ابنها.. لكنها تعرضت لمدة ما يقرب من عام لكثير من الضغوط للتنازل عن البلاغات المقدمة بشأن الأرض وإصابة محمد “لأنني خشيت خسارة أبنائي الثلاثة قررت التنازل عن القضية لنستكمل عملنا”.
كلمة قيلت من أحد الأشخاص عند تنازلها وابنها عن القضية راكمت الحزن بداخلها، وسددت خنجراً لقلبها، وكانت سببا في إطلاقها مبادرة للشباب والبيوت المصرية، إذ تقول: “عند تنازلنا قال أحد الأشخاص في المحكمة لابني محمد “أخيرا كنت أنتظرك منذ عام”، وشعرت بعد هذه الكلمة بالقهر وأشفقت على نفسي خاصة، ونحن تعرضنا للظلم. في هذه اللحظة تعهدت بعدما أصابوا يد ابني أن أعلم ملايين مثله لنشر الحرفة وبأعلى صوتي في المحكمة قلت سأطلق مبادرة “يا شباب بكرة.. منتج من كل بيت” لأعلم أكبر عدد من الشباب والشابات للتدريب على صناعة الجلود. وبالفعل دربت عدداً كبيراً من الشباب وصل عددهم حتى الآن إلى 5 آلاف متدرب”.
تصف وجيها إصابة ابنها الأكبر محمد بكونها أكبر “كسر” في حياتها ” محمد الأقرب لي ومنذ صغره يساعدني في العمل، فقد ترك تعليمه ليساعدني في العمل والإنفاق على إخوته”.
وبعزيمة لا تفتر عادت وجيهة للعمل مجدداً، وخلال فترة جائحة كورونا قررت العودة للتعليم، وحصلت على شهادة الإعدادية، وانتقلت إلى الصف الأول الثانوي، وعن العودة للتعليم مرة أخرى في فترة متأخرة من الحياة قالت: “التعليم كان حلما بالنسبة لي، وفي البداية استكبرت عمري، ولكن حين وجدت أن سيدة مسنة عمرها ثمانون عاما في الامتحان معي تغيير فكري كما رجع ابني معي للتعليم مرة أخرى”.
تتويجا لكفاحها كرمت السيدة وجيهة من جهات عدة مثل المركز العربي للتنمية البشرية، وحصلت فيه على الأم المثالية في 2016، وتكريم من المحافظ، “ولكني أعتز بشكل خاص بالوسام الذي حصلت عليه من الرئيس السيسي وجائزة الأم المثالية في مجال التمكين الاقتصادي”.
ورغم بساطتها، استطاعت وجيهة خلال حياتها أن تطبق قواعد اقتصادية مكنتها من الحصول على الأم المثالية في التمكين الاقتصادي، إذ طبقت مبادئ ترشيد الميزانية، ودائماً ما كانت تدخر يومياً ولو مبلغاً ضئيلاً على الهامش لأي ظرف طارئ “أؤمن بأن كل سيدة وزيرة اقتصاد في بيتها”.
مازلت أتمسك بحلمي في بناء مصنع لتشغيل أكبر عدد من الأشخاص
وتأسف وجيهة لما تتعرض له السيدات من ظلم في المجتمع قائلة: “يقهرني ظلم البنات والسيدات من المجتمع وما يتعرضن له من ضغوط وقهر من أسرهن. والسيدات عقولهن جبارة، ويمكنهن إدارة البلاد وتحقيق نجاحات عدة، فهن يتسمن بالحكمة ولديهن سرعة بديهة في أي موقف”.
وفي ختام حديثها، تعبر وجيهة عن أملها في مزيد من الدعم الحكومي خلال الفترات المقبلة للأسر المنتجة وما تقدمه، حتى يمكن فيما بعد زيادة المنتجات التي تعرضها هذه الأسر، وعما تود تحقيقه مستقبلا تقول: “ما زلت أتمسك بحلمي في بناء مصنع وتشغيل أكبر عدد من الأشخاص لأشارك في اقتصاد بلدي، والحج إلى بيت الله الحرام”.
أسرتي في كل مكان
مصر- داليا شافعي