أمهات لبنانيات برتبة «بطلات».. عُدن إلى مقاعد الدراسة
مما لا شك فيه أن مهمة الأم هي الوظيفة الأسمى والأصعب على وجه الأرض، فنجد معظمهن يتخلين عن أحلامهن وطموحاتهن الشخصية حين يرزقن بمولود جديد ويسخّرن أنفسهن لتربية الأولاد، يعطونهم من أرواحهن ويسرقن الوقت من أنفسهن ليبنوا طرقاً جديدة لعمر مديد، تضحي الأم بنفسها وحياتها لأجل سعادة ونجاح أولادها.
في تقريرنا هذا ثلاثة نماذج عن أمهات لم يكتفين بدورهن كأم، بل سرقن من الوقت وقتاً لملاحقة أحلام وطموحات واستطعن ذلك رغم الظروف الصعبة وكثرة المسؤوليات.
الحاجة سعاد وأولادها الثمانية
لم تتمكّن الحاجة أم محمد من أن تلاحق حلمها الطفولي بإكمال علمها بسبب زواجها في عمر 16 سنة وسفرها إلى الكويت، وآثرت التركيز على شؤون منزلها والاهتمام بأطفالها الذين وصل عددهم في نهاية مسيرتها الأمومية إلى 8.
عائلتها الكبيرة استهلكت قواها، وجعلتها تنكب على العمل بين تربية الأطفال، الطبخ، الغسيل، التنظيف، رعايتهم في الصحة والمرض، تقول أم محمد “مع دخول أولادي إلى المدرسة بتُّ أتعلّم وأنا أدرّسهم، وطوّرت نفسي لأستطيع أن أواكب واجباتهم المدرسية، وبسببهم تعلّمت اللغة الإنجليزية مع العلم أن لغتي التي تعلمتها أيام دراستي كانت الفرنسية”.
حلمي عاد للنبض مجدداً
اعتمدت الحاجة سعاد على مبدأ تنظيم الوقت لإعادة إحياء حلمها الطفولي، وبعد أن كبر قسم من أولادها وباتوا جميعا في المدارس، خلقت وقتا لنفسها خلال دوامهم المدرسي، ولأن مسؤولياتها كثيرة ووقتها لا يسمح بالعودة إلى مقاعد الدراسة، قررت التسجيل في معهد لتعلّم مهنة خياطة الملابس.
باتت أم العيال تنهي دوامها على عجل لتكون في الوقت المحدد لتقل أولادها من مدارسهم كل بحسب مرحلته، تقول االمرحلة كانت صعبة جداً لكنها جميلة، حيث كنت أؤدي دوري الأمومي على أكمل وجه، وأتممت اختصاص الخياطة بنجاح وانتقلت لتعلّم اختصاص التجميل النسائي وأتقنته بنجاح، ولا يمكنني أن أصف شعوري في تلك المرحلة حين حصلت على شهادتين، لو كنت أستطيع تعليقهما على جبيني لفعلت لفرحتي بما حققت وسط زحمة من الضغوطات والمسؤوليات، والأولاد الـ 8.
علمي عزز مكانتي كأم
افور انتهائي من دراستي، فتحت في المنزل ورشة لتطبيق ما تعلّمته، فبت أعمل في إصلاح ملابس أولادي ومن أخطائي تعلمت وطوّرت نفسي حتى أصبحت أعرف ما يلزمني، وعلى صعيد التجميل النسائي عملي التطبيقي حصرته ببناتي، أخواتي الإناث وأمي رحمها الله، وحين كنت أهتم وأزيّن شعر أمي الأبيض كالثلج والناعم كالحرير كنت أرى نظرة الفخر في عينيها، وما زال صدى دعواتها عالقة في أذنيب. هنا قاطعتها دمعتها وأنهت حديثها.
الدكتورة سوزانا ومتابعة تخصصها الطبي
بعد تخرجها في كلية الطب العام، اضطرت الدكتورة سوزانا تشوريتش أن تترك بلدها كرواتيا وتسافر مع زوجها طبيب الأسنان علي حبيب إلى لبنان، ونظراً لتغيّر ظروف الحياة عليها اكتفت بشهادة الطب العام حينذاك والتركيز على العناية بعائلتها وتأمين متطلباتها.
تقول الدكتورة سوزانا بلغتها العربية الفريدة والجميلة “بعد أن أمضيت 25 عاما من عمري في رعاية أسرتي المكوّنة من 4 أولاد، قررت العودة لدراسة اختصاص (الطب العائلي) وعملت جاهدة للتنسيق بين حاجات الأسرة، وعملي في أحد مستشفيات ضواحي بيروت، واختصاصي الجديد، والحمد لله أنهيت اختصاصي بتفوّق بمساندة زوجي وعائلتي”.
العلم من المهد إلى اللحد
العلم هو سلاح المرأة، وبعيداً عن كونه مدخلاً لحصولها على وظيفة، فعلمها عامل قوة ومصدر ثقة للمرأة، وعلى صعيدي الشخصي استفدت من كوني طبيبة قبل كل شيء برعاية أولادي والمحافظة على صحتهم، ونقلت خبرتي وعلمي لأولادي وعلمتهم ما يحتاجون إليه للاهتمام بصحة أطفالهم بدورهم.
لم أكتفِ بدراسة اختصاص الطب العائلي، بل تابعت ودرست اختصاص العلاج بالإبر الصينية وتخرّجت في الصين، إذا مسيرة طلب العلم لا تنتهي مع عامل الوقت وتقدّم العمر، وعلى الإنسان ألا يسمح لشيء بأن يوقف طموحه، وإن توقّف لظرف ما عليه أن يتابع ريثما تتحسن الظروف، وكل توقيت هو مناسب مادامت الرغبة موجودة والإرادة متينة.
قمة نجاحي.. نجاح أولادي
لا تخفي الدكتورة سوزانا فرحتها بتخرّج ابنتيها “صابرينا وياسمينا” في كلية طب الأسنان في الجامعة العربية في بيروت، بل تفرح بنجاحهما أكثر من فرحتها بنفسها، تقول “نجاح بنتي يعوّض سنين تعبي وسهري وتضحيتي، زرعي أثمر بنجاحهما”.
اختصاصي الجديد ساعد الفقراء أكثر
تقابل الدكتورة سوزانا يومياً العديد من العائلات الذين لا حول لهم ولا قوة، ولا مقدرة مادية للعلاج في المستشفيات خصوصا في ظل الأزمة الحالية، فكان اختصاصها الجديد بوابة أمل للفقراء الذين يقصدونها. تقول “لم أنظر للطب يوما على أنه مصدر دخل بقدر ما هو عمل إنساني محض، فالأساس عندي هو حياة البشر.
ساحرة فقيه
تركت الشابة الثلاثينية ساحرة المدرسة مبكراً بعد زواجها، وقضت حياتها بالاهتمام بمنزلها ورعاية ابنتها الوحيدة فيما بعد، لكنها عملت جاهدة لكسب المعارف والمهارات في مجالات عدة بهدف سد النقص الموجود، لكن بقيت حسرة حصولها على شهادة أكاديمية ترافقها، إلى أن اتخذت قرارها بالعودة إلى مقاعد الدراسة وتعلّم اختصاص التربية الحضانية، ليكون مدخلاً نحو إكمالها المرحلة الجامعية السنة القادمة.
وتقول فقيه اما ساعدني على العودة للدراسة هو عامل الوقت، وابنتي أصبحت كبيرة وتستطيع الاهتمام بنفسها، هنا أصبحت فرصتي مضمونة للاهتمام بنفسي والقيام بشيء يرضي بعضاً من طموحاتي، وقد حصلت على التشجيع من أصدقائي وأهلي ودعموني معنويا وماديا لتحقيق هدفي الأول في رحلة الألف ميل.
نقص أكاديمي
كنت أشعر على الدوام بنقص أكاديمي حصراً وليس نقصاً عاماً، “على صعيد حياتي الشخصية أنا محققة كتيرا إنجازات اجتماعية وثقافية بعيداً عن العالم الأكاديمي”.
كيف تخطيت العامل النفسي ونظرة أصدقاء الدراسة الجدد والمجتمع، خصوصاً مع وجود فرق العمر؟
- مكّنتني شخصيتي المرنة مع كل الفئات العمرية أن أتفاعل بسهولة معهم وهذا الشيء اكتسبته من خلال العمل الكشفي، لذلك لم أواجه أي مشكلة مع أعمار الزميلات معي علماً أن أغلبهن أمهات من عمري لكنني كنت سعيدة جدا برفقتهن وزمالتي الجديدة.
نظرة المجتمع انقسمت إلى قسمين، قسم شجعني بحماسة، وقسم آخر حاول تحطيم معنوياتي ووضع العصي بالدواليب كما يقول المثل، واعتبر أن الأوان قد فات علي وأخذ الموضوع بلا مبالاة. لم أكترث لكل الآراء السلبية وركّزت على دراستي، والجميل في الموضوع “كنت أدرس ليلاً وابنتي تختبر مدى حفظي وفهمي للمادة، ومعلماتي كُنّ يصغرنني بأكثر من عشر سنوات لكنه إرباك وتخطيناه معاً، المهم الهدف المنشود”.
شعور العودة للدراسة
شعور العودة للدراسة والكتب والدفاتر، الحفظ وحل المسائل، إجراء المسابقات والانتظار بفارغ الصبر لنيل علامة عشرين على عشرين، يعني شعورك أنكِ أعدت عقارب الزمن إلى الوراء وعدت صغيرة. تضيف “كنت أَعبر مدخل المعهد وأنسى عنده حاجز عمري وأركّز على الهدف الذي قدمت لأجله. جزء من عزيمتي استمددته من كوني أما تود أن تكون قدوة أمام ابنتها، ولن أقبل أن أجد فيَّ نقصا ما ولا أعالجه.
وأقول للمرأة “كوني قوية، مثقفة، فنانة وكوني كتلة عاطفة.. ولا تنسي أبداً أنّكِ نصف المجتمع”.
«أسرتي» في كل مكان
علي غندور