الجامعي استقال ليعمل ناطوراً.. والسبعيني عالج أزماته بضحكة وموسيقى الأستاذ الجامعي والعم يوسف.. قهرا الظروف بالتواضع والموسيقى
تمشي في الشارع تجد أن الحياة اختلفت كثيراً، أغلب الناس وضعت ألقابها الاجتماعية جانباً، وأيقنوا أن كلمة «أستاذ» وجميع عبارات التبجيل لا تملأ أمعاء الأطفال الخاوية، وقرروا الكفاح والعمل في أي مجال ما دام يؤمن لقمة عيش عياله، ويبعد عنهم شبح العوز وتسجيل اسمهم ضمن قائمة المغلوب على أمرهم.
في تحقيقنا هذا سنسرد لكم قصة الأستاذ الجامعي الذي قرر أن يعمل ناطور بناية، والعم يوسف، قصتان ظاهرهما حزين، لكنهما تحملان في طياتهما أملاً بأن القادم أجمل، وتعكس شعباً يرفض الموت، رغم كل الركام يبقى ينشد الفرح، ويعيش يأكل الأمل ويتنفس حياة.
ترك وظيفته في التعليم الجامعي والعمل ناطوراً للبناية التي يسكنها
ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بعد منشور للأستاذ الجامعي والباحث السياسي الدكتور نسيب حطيط يروي قصة أحد زملائه (لم يكشف اسمه) الذي قرر ترك وظيفته في التعليم في الجامعة اللبنانية والعمل ناطورا للبناية التي يسكنها غير آبهٍ لكلام الناس ولا للمكانة الاجتماعية، بل قراره هذا اتخذه بعد جهد في التفكير والحسابات، والخلاصة كانت استقالته من التعليم في الجامعة وقبوله العمل بدل ناطور بنايته كخطوة يحسن فيها وضع عائلته الاقتصادي.
يقول الدكتور حطيط واصفاً ما جرى مع زميله ”قبل أيام زارني في الجامعة أحد الزملاء، وقدم استقالته من التعليم الجامعي، والحزن والغصة تغلّف ورقة استقالته وكلماته الضعيفة. بعد أكثر من عشر سنوات في التعليم الجامعي وشهادة دكتوراه.. وجد نفسه هامشيا في مجتمعه.. ودون كرامة أو تقدير لعلمه، فهو يتقاضى مبلغ 60 ألف ليرة عن الساعة، أي ما يعادل الدولار والنصف، ويقبضها بعد سنة أو سنتين، ويتحمل نفقات التنقل التي تزيد عما يقبضه وبدون ضمان صحي.
حاول حطيط إقناعه بالتراجع بقوله “إن الأزمة ستمر إن شاء الله، وستعود الأمور إلى مسارها الحسن “، فأصر وقال “يوم أمس قدم الناطور استقالته، وأبلغنا أنه لا يستطيع الاستمرار بالراتب القديم (مع العلم أن سكنه والكهرباء والماء على حساب سكان البناية) وطلب راتب ستة ملايين ليرة”.
وتابع الأستاذ الناطور “وبما أنني سأدفع له ما يساوي ما أقبضه من الجامعة، فطلبت من الجيران التمهل، ودرست الموضوع طوال الليل، فوجدت أن المناسب والأكثر ربحاً لي أن أعمل ناطوراً للبناية، فأقبض 6 ملايين (دون ضريبة) وأحصل على الكهرباء والماء والسكن مجانا، كما أنه أرسل عائلته إلى الضيعة”.. مضيفا” وأوفر أجرة النقل (3 أيام في الأسبوع حضوريا) مما يوفر مليونين ونصف، فيصبح مجموع راتبي 8.5 ملايين، ولا أعود مضطراً لشراء بدلة صيفية وشتوية تليق بالتعليم (توفير 200 دولار ما يساوي 8 ملايين فيصبح الراتب 9 ملايين ليرة).
«الأستاذ الناطور» على استعداد لإعطاء الدروس عبر نظام أونلاين مجانا واستقبال الطلاب تطوعاً في غرفة الناطور
قرار الأستاذ هذا نتيجة الواقع المزري الذي يعيشه القطاع التعليمي في لبنان، ولكن في قصة هذا الأستاذ عبرة، ودرسا أن المناصب والمكانات الاجتماعية لا تقف عثرة أمام بحث اللبناني عن البديل عند الضرورة، حتى لو اضطر لأن يضع شهادة الدكتوراه جانبا، فالضرورات تبيح المحظورات في الظروف القاهرة.
العم يوسف رغم آلامه صانع للضحكات
يتجول العم يوسف طباجة ابن بلدة الجميجمة الجنوبية في ربوع بلدته، ويرافقه غيتاره أينما ذهب، يختار مكانه الاستراتيجي الذي يكون في أغلب الأحيان بين أحضان الطبيعة ويباشر العزف، وعلى وقع ألحانه سرعان ما يلتف حوله الأحبة والأصحاب، وتعم أجواء الفرح.
يقول العم يوسف لمجلة اأسرتيب:ت
بتنا نعيش في زمن نسرق الفرح سرقة، ولو حبسنا أنفسنا داخل سجن أحزاننا فمصيرنا اليأس والموت ا، ويضيف السبعيني اأنا كل أمراض الدني فيني، عندي مشكلة كبيرة بعيوني، وضغط وسكري وضيق بالمعيشة، بس شو الحل؟ ما فينا نحط الحزن بالجرن ونقسى عحالنا أكتر ونصعبها بزيادةب.
يجلس السبعيني المرح على صخرته المعتادة في وادي الحجير (جنوب لبنان) ويباشر عزفه، يقول اأنا بحب العزف على الغيتار، بعتبرو رفيق دربي وعمري وحياتي، وبعرف من 15 سنة وبعمري ما تعلمت الأساليب الموسيقية ولا حتى بعرف نظامها وقوانينهاب.
يعزف العم يوسف بين أحضان الطبيعة بأنغام تتصاعد على سجيته، يعزف ما يخطر على باله بلا حسيب أو رقيب، ولا يحب التعليقات السلبية، ولا نوعية الأشخاص الذين ينصحونه بتعلّم الموسيقى وبعض التنظيرات والنصائح التي لطالما يدير لها أذنه الصمّاء. خلال حديثي معه تعرّفت على شخصيته المرحة المحبة للمرح والحياة، تكاد لا تخلو كلماته من البهجة، أو الخبريات المرحة.
قصة عزفه والغنمات
يضحك العم يوسف من كل قلبه خلال إخباري ما حصل معه، يقول اكنت جالساً في وادي الحجير مع غيتاري، أعزف ألحانا اخترعتها في لحظتها، وبعد بضع دقائق وجدت الأغنام ملتفة حولي، ففرحت لأنها أعجبت بأدائي وواصلت العزف، وما هي إلا لحظات، حتى بدأت الأحجار تتساقط من حولي، وراعي الغنمات يصرخ عليها من بعيد للتوجّه نحوه، ضحكت على ما جرى، الأغنام قدّرت فنّي أكثر من الراعيب.
ملك التيك توك
حين يعزف العم أبو يعقوب يعيش حالة من الانسجام مع ألحانه ودندناته التي تخرج بشكل ارتجالي، يحرّك رأسه يميناً وشمالاً، ويغمض عينيه تأثراً، وبعد أن يخفت صوت مكبر الصوت الموصول إلى غيتاره، تترك يده العزف لتمسك بالإبريق من على مؤدة الحطب ليسكب اكبايةب شاي جديدة. بنظرات سريعة يلاحظ الهواتف مسلطة عليه، يرفع يده للتحية، ويعيد الإبريق إلى مكانه ليواصل العزف سريعا احتراما للجمهور الذي غافله وحضر.
الموسيقى غذاء الروح
يمسك السبعيني هاتفه بكفّه الخشن والفسيح، ويقلّب بإبهام اليد الأخرى الفيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي، وإذ به يندهش حين يجد نفسه في مقطع الفيديو الذي يشاهده، يشاهد نفسه ويُعجب بها، تفاعل الجمهور مع فيديوهاته وإعجابه بها دفعه إلى إنشاء حساب على تطبيق االتيك توكب لينشر فنّه الصادق والجميل، وبات له جمهوره الخاص الذي قرر أن يستمتع بمشاهدة سبعيني يعزف على طبيعته بلا تكلّف وتصنّع، ومشاهدة المناظر الجميلة التي يختارها ليعيش فنه ويستمتع به.
خلال حديثنا، عبّر السبعيني الجميل عن حبّه لحياته التي يعيشها ببساطتها وعفويتها، وشعاره الدائم االموسيقى غذاء الروح والله مدبّر الرزقب.
كل شيء في لبنان يدعو إلى اليأس، الأزمات تلاحق الشعب اللبناني من كل حدب وصوب، ورغم كل أزماته ما زال اللبناني يصنع من الضعف قوة، وفي كل مرحلة يثبت مدى قدرته على الصمود وتجاوز الصعوبات، وقدرته على التأقلم مع المراحل الصعبة. العجيب والجميل في هذا الشعب، إيمانه الدائم بأن الغد أفضل، واليأس ممحو من قاموسه، ينشر ثقافة الحياة بالحب والكفاح والموسيقى، ومهما دفن تحت الركام فمصيره سينفض الغبار عنه، وينهض من جديد.
«أسرتي» في كل مكان
علي غندور