بنت الشهيد شيخة الصالح : حكاية والدي وشجاعة والدتنا.. إلهامُ نجاحنا ونبعُ فخرنا
تتضاءل مفاهيم العطاء في حضرة الشهيد.. وتخفت كلمات القواميس ومطولات الخطب أمام قطرة دم واحدة طاهرة تسقط فداء للوطن، وها نحن أمام قصة الشهيد «وليد إبراهيم الصالح» الذي حفر اسمه بأحرف من نور على جبين التاريخ، وسيظل التاريخ يذكر تضحياته التي ستبقى في الوجدان ولن تمحى.
«أسرتي» التقت ابنة الشهيد اختصاصية التغذية العلاجية «شيخة الصالح»؛ لتعرض لنا لمحات من حياة والدها الشهيد «وليد الصالح».. وإليكم التفاصيل:
نستمدُ من روح والدي عزيمة النجاح
ماذا تحمل ذاكرتك عن آثار العدوان العراقي؟
− العدوان الغاشم صاحبني في مراحل حياتي، لم تكن 7 أشهر وأيام مضت.. العدوان حفر بصماته في نفسي يوما بعد يوم.. كنت في الثانية من عمري عندما اقتحمت القوات العراقية أرضنا.. ذلك العدوان حولني من طفلة تستمتع بالجلوس في حجر والدها وتسعد برؤيته إلى طفلة تحمل لقب بنت الشهيد، تتذوق مرارة اليتم في كل يوم.. تربيت وشقيقاتي في كنف والدتي.. لا أستطيع أن أحصي عدد الأيام والمواقف الذي تمنيت أن يكون والدي بجانبي.. احتاج إلى والدي ولكني لا أجده.. وهذه الكلمات لن يقدرها إلا من عاش هذا الواقع، خاصة أثناء دراستي في الخارج.
نجاحنا نبع من قلب حكاية والدي الشهيد، وضعنا تضحية والدي نصب أعيينا ليفتخر بنا، حصلت شقيقتي الكبرى طيبة∪ على درجة الدكتوراه في التصميم الداخلي، وحصلت مريم على بكالوريوس تكنولوجيا التعليم، وتخرجت العنود في كلية الحقوق جامعة الكويت، ويأتي دوري في الترتيب حيث حرصت على أن أدرس تخصص التغذية العلاجية في استراليا، أما عائشة أصغرنا فتعمل مهندسة كمبيوتر.. إننا نستمد كلنا من روح والدنا (رحمه الله) ووالدتنا الغالية عزيمة النجاح دائمًا.
والدتي راهنت على نجاحنا رغم نظرات الشفقة من الجميع
ماذا عن دور الوالدة (الله يحفظها لكم)؟
− والدتي وجدت نفسها بين عشية وضحاها تحمل على عاتقها مسؤولية خمس فتيات في مرحلة الطفولة دون زوج أو سند، لم تكن صاحبة خبرة كبيرة لتستوعب حقيقة الحياة بعد استشهاد والدي، فهي بالكاد كانت قد أكملت عامها الثلاثين عند استشهاد والدي.. وكان يراودها إحساس أنه ذهب وسيعود، وفي الحقيقة كانت مواجهة الموقف أصعب بكثير من الحديث عنه.
بعد استشهاد والدي قالوا لها إننا حمل ثقيل، ولابد أن تتزوج لتجد من يحمل معها هذا الحمل الكبير، ولكنها أبت، وراهنت على نجاحنا رغم إحباط الجميع لها، وأصرت على أن تثبت أنها جديرة بالشرف الذي تركه لها والدي، فهي زوجة الشهيد الذي ضحى بنفسه من أجل الكويت، فكانت تشجعنا وتدعمنا لنحقق طموحنا ونجاحنا.
حدثينا عن الوالد الشهيد البطل «وليد الصالح».
− والدي كان مسؤولا في الشركة الكويتية لتزويد الطائرات بالوقود، بدأ مقاومته للعدوان الغاشم منذ اليوم الأول له بشكل فردي، حيث قام بعمل هوية جديدة له، وحرص على إخفاء هويته الأصلية، وكون بشرته سمراء اختار الجنسية السودانية حتى يستطيع التخفي من الجنود العراقيين.. منذ الأيام الأولى للعدوان كان والدي (رحمه الله) يخرج بسيارته الوانيت يوميا دون ملل أو كلل متسلحا بمسدس من نوع قديم وبل، وفي طريقه كان يتصيد جنديا أو اثنين من جنود الطغاة بحجة إيصالهم إلى الأماكن التي يريدونها ثم يقضى عليهم.
كان والدي (رحمه الله) قبل اعتقاله قد غامر بنفسه عدة مرات من أجل الاطمئنان ورؤية شقيقه الأسير في السجون العراقية، مع علمه بأنه مطلوب من السلطات العراقية وأنهم يبحثون عنه، ولديهم اسمه ولقبه، ولكنه لم يهتم ولم يبال، وكان يردد الآية الكريمة (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).
ماذا عن دوره في التطوع والمقاومة؟
− انضم والدي إلى مجموعة سرية كانت تقوم بمهمات وطنية على طريق الدائري الرابع، ثم كون مجموعة أخرى في منطقة الرميثية.. كما كان يقوم بتوزيع الأموال على الأسر المحتاجة والمتعففة، وعمل على نقل السلاح من منطقة إلى أخرى بكميات كبيرة حسب الحاجة للتوزيع، وكان (رحمه الله) يغطي عمله الفدائي البطولي بمشاركته لأهالي المنطقة في إزالة القمامة والمخلفات بالحفارة من معظم مناطق الرميثية، وذلك بأبعادها عن المناطق السكنية أمام من سكان المنطقة، كما عمل جزارا، وتطوع للعمل في الجمعية التعاونية حيث كان يحضر المواد الغذائية من مخازن منطقة صبحان إلى الجمعية.
ما مرَّ به أولئك الأبطال يفوق قدرة البشر
ماذا عن يوم استشهاده؟
− يوم الجمعة 18/01/1991 ثاني أيام الضربة الجوية، وبعد خروجه من المسجد بعد صلاة العصر، تصادف وجود إطلاق نار بالمنطقة بين جنود العدوان وعناصر المقاومة الكويتية، وعلى هذا الأساس عززت قوات العدوان وجودها بالمنطقة، حيث تم فرض حصار عسكري وطوقت على أثره المنطقة وألقى القبض على مجموعة من الشباب، ومنهم والدي، وتم اعتقالهم ونقلهم إلى المخفر.
وقد فوجئ الجميع بأن جميع العسكريين في المخفر من ضباط وجنود كانوا يقولون لوالدي: أين أنت يا وليد؟ منذ فتره طويلة ونحن نبحث عنك! لقد آذيتنا وقتلت من جماعتنا الكثير∪.
وبعد تعذيب شديد لجسده الطاهر بالضرب والحرق والصعقات الكهربائية وقلع العين تم إعدامه، واستشهد وصعدت روحه إلى السماء مستجيبة لكتاب ربها وقدره ملبية نداء الوطن الواجب يوم 20/01/1991.
واستشهد معه جميع من تم اعتقالهم ما عدا مسعود حمزة كريمي، حيث تم الإفراج عنه بعد شهر وخمسة أيام من اعتقاله.. أما الآخرون فتم إلقائهم في الشارع في الرميثية بعد استشهادهم والتمثيل بجثثهم، ولم يعلم أحد من ذويهم بخبر استشهادهم إلا بعد التحرير، أي بعد اعتقالهم بحوالي 40 يوماً، فما مر به هؤلاء أولئك الأبطال يفوق قدرة البشر.
بمَ حدثوك عن صفات الوالد وطبيعة شخصيته؟
− والدي (رحمه الله) كان يحمل صفات كثيرة تعرفنا عليها من والدتي ومن المحيطين به، كان شديد التمسك بواجباته أمام الله وأهله والناس، شديد الحرص على صلة الرحم والمودة، شديد الحب لبناته، كان صبورا جريئا شجاعا قويا، لا يعرف التشاؤم ولا اليأس، ولا يخشى قول الحق ولو على نفسه، كان كريم الخلق، رحيم القلب، محباً للخير، سباقا لفعله، ويشهد على ذلك كل من عرفه، تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جناته، فقد نال الشهادة، وأصبح منارة في طريق النصر والتحرير.
ما الكلمات التي كان يذكرها؟
− كان يقول لوالدتي: أنا شهيد الوطن∪.
هل تجدين تشابهًا بين أزمة العدوان وأزمة انتشار فيروس كورونا؟
− التشابه يكمن في ظهور المعدن الأصيل للشعب الكويتي وأبنائه الذين يضحون بأرواحهم فداء للوطن، أتذكر يوميا روح والدي الشهيد وموقفه فأستجمع أفكاري وأتسلح بدعائي وأمشي على خطى والدي الذي ضحى بروحه للكويت.. وها أنا بروحي وعلمي فداء للكويت.
كلمة أخيرة.. إلى من توجهها «بنت الشهيد»؟
− شكرًا لـمكتب الشهيد على رعايتكم لنا منذ استشهاد والدي.. كنتم خير سند ومعين لنا وداعم نفسي ومادي، وأخص بالشكر أم الأيتام الغالية الأستاذة فاطمة الأمير والأستاذة أشواق العرادة وجميع الموظفين في مكتب الشهيد، من المدير العام إلى أصغر موظف موجود في المكتب.. جهودكم واضحة تجاه أبناء الشهداء، ولا يمكن نكران الجميل.. شكراً من القلب.