مما لا شك فيه أن المواطن اللبناني خسر الكثير جراء الأزمة الاقتصادية التي عصفت بوطنه منذ قرابة السنتين، فعاش كل مشاهد الذل والموت البطيء حتى بات عاجزا عن تأمين لقمة عيش أطفاله، ما دفعه لخيارات قد يكون الموت ثمناً.
عند ساعات الفجر الأولى وبصمت كلي، يصعدون على قوارب الموت، لا يفكّرون بكل المخاطر، السلامة العامة، ظروف الطقس، الأعداد البشرية المتراكمة، سلامة المركب، ومهارة القبطان، كل ما يجول في أذهانهم الوصول إلى أوروبا، بجنّتها ونعيمها هربا من واقعهم الأليم.
ما زال جرح قوارب الموت ينزف في لبنان، وما زال المفقودون بين أحضان البحر حتى يومنا هذا، مشاهد قاتلة حصلت، ولعل أصعبها حين قرر والدان رمي جثة طفلهما بعد موته أثناء رحلتهما، هو الموت بعينه هربا من الموت في الوطن عن طريق قوارب الموت، لا كلام يجسّد المشهد، فاللبناني الفقير بات أمام خيار واحد «الموت في الوطن من خلفه، وقوارب الموت من أمامه». البعض عَبر البحر ونجح بالوصول، وفي لبنان الكثر ينتظرون.
في تقريرنا هذا سنعرض لكم قصصا لعائلات قررت خوض غمار البحر بحثاً عن لقمة عيشها بكرامة، ولشباب طامح لبناء غده، ولحزن لا ينتهي عندما ابتلع البحر أطفالاً ورُضّعا تاركين غصّة قاتلة ودمعة دموية.
«الهدف كان حينها أوروبا، أما الآن فقد فقدت فلذات كبدي أولادي الثلاثة»
البحر حرمنا من كلمة بابا وماما
يروي العم عميد دندشي ابن مدينة طرابلس قصته ودموعه تتدحرج على خديه، وبصوت حزين ومتقطع يقول االبحر حرمني من كلمة باباب، قرر العم عميد الهجرة مع عائلته للهرب من ضيق العيش في لبنان، فحجز مكانا له ولعائلته على متن اقارب الموتب، وفي 23 أبريل (نيسان) الماضي حلت الكارثة، حيث تسرّبت المياه إلى المركب بعد محاولة قبطان المركب الهرب من دورية لخفر السواحل اللبنانية قبالة شاطئ طرابلس.
يضيف بحرقة االهدف كان حينها أوروبا، أما الآن فقد فقدت فلذات كبدي أولادي الثلاثة، أسد (40 يوماً)، جواد (8 سنوات)، وفداء (5 سنوات)، لم أستطع إنقاذهم، بت لا أستطيع أن أنظر إلى البحر، وحتى في نومي أسمع نداءات استغاثتهم وصوت البكاء، أستقل المركب وأُبحر برفقة أصدقائي لعلّي أجدهم لكن عبثًا أحاولب.
فصول الكارثة على عائلة دندشي لم تنتهِ هنا، فقد كان على متن اقارب الموتب بالإضافة إلى عميد وزوجته وأولاده، شقيقاه بلال ورائد. نجا رائد وفقد زوجته وابنته غزل، وتم العثور على جثة ابنه بهاء. ونجا الشقيق الثالث بلال، وفقد زوجته وولديه ليث ورزان. 7 أطفال ضحايا لعائلة واحدة وزوجات، هنا تكمن الكارثة الإنسانية بكل تجلياتها.
ما زال هذا التاريخ 23 أبريل (نيسان) جرحاً نابضاً للكثير من العائلات الطرابلسية خصوصاً، حيث كان على متن قارب الموت أكثر من 70 شخصاً، ولا يزال عشرات المفقودين يقبعون في قعر البحر على عمق 470 متراً حيث رسا المركب المشؤوم، ولم تتمكن السلطات اللبنانية حتى الآن من انتشاله، فيما ينتظر الأهالي استرداد جثث أحبتهم، والبعض منهم يرفضون تسميتهم أمواتا، بل مفقودين لعل في طيات هذه الكلمة بعضاً من الأمل المستحيل.
تمكّن الجيش اللبناني بعد الحادثة وبعد جهود مضنية واستخدام كل الطاقات البشرية والتقنية من إنقاذ 45 شخصاً، وانتشال 6 جثامين، وترجّح التقديرات أن 23 شخصاً لا يزالون مدفونين في قعر الماء مقابل الشواطئ الطرابلسية.
«ما عندي شيء لأخسره، إذا ما وصلت برجع أو بموت ما في حل ثالث»
طارق وحلم السفر
لم يتخل طارق (اسم مستعار) ابن الخامسة والثلاثين عاما عن حلمه الطفولي بالسفر خارج لبنان، يخرج من منزله الصيداوي صباحا متوجها نحو حسبة الخضار ليشتري بضاعته ويضعها على عربته المدولبة ويتوجّه نحو كسب رزقه الحلال، يقول طارق اباءت محاولاته الثلاث بالفشل للهجرة غير الشرعية من لبنان، وكانت آخر محاولة منذ ثلاث سنوات، وأنا الآن أجمع المال من أجل المحاولة القادمة بعد الحالة الاقتصادية المزرية التي وصلنا إليها في لبنانب.
طارق لم يتزوج حتى الآن، مبررا ذلك بأن تكوين عائلة في لبنان سيشكل عائقاً أمام حلمه بالسفر، يضيف امسؤوليات العائلة ومصاريفها ستؤخّر حلمي، أو بالأحرى لن أتمكّن من تأمين معيشتها، لذلك سأسافر إلى أوروبا لأعمل وأتزوج وأكوّن عائلة هناك حيث الرزق والطمأنينة ورفاهية الحياةب.
وصل طارق إلى الشواطئ القبرصية مرة، وبعد أن اعتقد أن باب الفرج فُتح في وجهه، وجد نفسه على كرسي التحقيق في مركز الشرطة، ومرة أخرى وصل إلى اليونان، وكذلك انتهى الأمر به على مركب عملاق عائدا إلى لبنان، أما المرة الثالثة فألقي القبض على المهرّب قبيل الانطلاق وضاعت أمواله وحلمه معها، أما الآن فالأمور بخير بحسب وصفه، فقد تعلّم من أخطاء الماضي، والخطة متقنة لهجرة نهائية ومضمونة، مؤكدا اما عندي شيء لأخسره، إذا ما وصلت برجع أو بموت ما في حل ثالث، وأكيد بحضّر حالي لمحاولة خامسة إذا صحتي بتحمل بعدب.
«كل ما يقلقني هو
بقاء أمي وحيدة هنا، وكيف ستتدبر أمرها وحدها بلا معيل»
انتظاراً لساعة الصفر
وفي السياق نفسه، يقول الشاب رامي (اسم مستعار) ابن الخامسة والعشرين عاما اأنا ابن البحر، ولدت في مدينة صور الجنوبية وأعمل في مجال صيد الأسماك، لكن لهذه المهنة متاعب كثيرة، وفي الآونة الأخيرة لم تعد تعطي مردوداً كافيا نظراً للمصاريف المرتفعة وغلاء المعيشةب.
حسم رامي قراره بالهجرة عن طريق أحد المهرّبين لبلاد الجنّة كما يصفها، معوّلا على قدرته العالية بالسباحة والغطس في حال حدوث أي خلل خلال الرحلة، إلا أنه يضيف بقلق اكل ما يقلقني هو بقاء أمي وحيدة هنا، وكيف ستتدبر أمرها وحدها بلا معيلب.
لم يخبر رامي أمه بما يخطط له كي لا تموت رعباً، ويأمل أن ينجح بالهجرة من المحاولة الأولى لأنها ستكون الأخيرة حسب قوله، وإن سارت الأمور كما يخطط لها سيتصل بأمه ليبشرها بوصوله بخير وتكون فرحة بلا قلق.
حال الشاب رامي كحال العديد من شبان مدينته، يحلمون بالهجرة ليخرجوا من دوامة فقرهم وللحاق بأحلامهم الوردية.
«تركتُ مهنة صيد الأسماك لأساعد الناس الساعية للهرب من ضيق معيشتها»
لست مهرّباً بل محقق الأحلام
يرفض العم سليم (اسم مستعار) أن تشمله صفة المهرّب، ويقول ابن مدينة طرابلس اأنا لست مُهرّبا بل تركتُ مهنة صيد الأسماك لأساعد الناس الساعية للهرب من ضيق معيشتها، ومهنتي الجديدة فتحت بوابة الحياة أمام العديد من أبناء وطني بعد وصولهم بخير إلى أوروباب.
يتابع الخمسيني اللأسف بعض أصدقاء الكار أصابهم الجشع، وباتوا يستغلون حاجة الناس عبر المبالغ الكبيرة التي يطلبونها، ما يدفع الناس لبيع كل ممتلكاتهم بهدف السفر، وهناك استهتار كبير بحياة البشر حيث يحمّلون على المركب أكثر من طاقته الاستيعابية ما يعرض سلامة المركب وبالتالي حياة المهاجرين للخطر المحتوم، وفي حال حدوث أي خلل تحلُّ الكارثةب.
يدافع عن نفسه بشراسة، لا بل تجد بين طيّات حديثه فخرا بالإنجازات التي حققها في هذا المجال، امن الناحية المادية أطلب مبالغ بحق الله، ومركبي مجهز بدواليب نجاة بحسب عدد الركاب، وأتفحص محرّك المركب قبيل الإبحار لتفادي الأعطال، وأبقي مركبي تحت سقف حمولته، والأهم عندي لا أسمح باصطحاب الأطفال خلال رحلاتي، لأنني لا أحتمل أن يصيبهم مكروه، وفي حال حدوث طارئ الراشد يخلّص نفسه أما الطفل فلا حول له ولا قوة بل مصيره الموت المحتوم كما حصل مع الأطفال في امركب الموتب.
يقول العم سليم اأكثر ما يسعدني اتصال الشباب بي بعد وصولهم إلى وجهتهم الأوروبية، هنا أرتاح وأباشر نصائحي الأبوية لهم، أوصيهم أن يثابروا للعمل على تحسين ظروف عيشهم ويعيلوا أهلهم، وأشدد عليهم أن يأكلوا لقمة الحلال فقطب.
يقدّم أحمد نصيحة ثمينة لكل طامح للهجرة أن يعمد للسفر بطريقة شرعية
نجحت بالهجرة ولكن..
نجح الشاب أحمد (اسم مستعار) وبعد رحلة محفوفة بالمخاطر ومطاردات على الحدود والتنقّل من مخيم إلى مخيّم بالوصول إلى وجهته النهائية ألمانيا، وبعد مضي سنوات وصل إلى قناعة بأن قراره بالهجرة كان في غير محله، نظراً لعدم تمكّنه من تحقيق ما كان يتمناه، أو بالأحرى الأمور لم تكن بالسهولة التي سمع عنها.
ما زال الشاب الجنوبي ابن الواحد والثلاثين عاما يعيش في أحد المخيمات بضواحي العاصمة برلين، تعطيه الدولة الألمانية مصروفه الشخصي كل أسبوع بحيث لا يتعدى الـ 50 يورو، ويعمد الشباب العمل لساعات ابالأسودب، وهي صفة تطلق على العمال غير المسجلين بحيث يبقى الشاب يتلقى المساعدة من الدولة وصاحب العمل يتهرّب من الضرائب، إلا أن هذا العمل أيضا بالكاد يكفي لتأمين الحاجات الأساسية، يقول اليس بمقدورنا أن نشتري علبة سجائر لارتفاع ثمنها والمصروف لا يكفي، فعمدنا للف السجائر يدوياًب.
يقدّم أحمد نصيحة ثمينة لكل طامح للهجرة أن يعمد للسفر بطريقة شرعية، خصوصاً بعد حالات الموت التي شهدناها في الفترة الأخيرة ونظرا لصعوبة الاستحصال على الجنسية ولائحة الشروط الطويلة الموجب تحقيقها، ويشدد اوهم تلك البلاد يتلاشى بمجرد أن تستفيق من كبوتك، فلا الدول تنتظر قدومك لتخدمك بعيونها، ولا الأشجار تثمر الأموال، بل كدّك وأوراقك الرسمية ومستوى تحصيلك العلمي من يحقق لك طموحاتكب.
حتى توقيت كتابة هذا التقرير ما زلنا نسمع يوميا في لبنان عن أشخاص وصلوا بسلام إلى أوروبا، وآخرين ألقي القبض عليهم أثناء الاستعداد للانطلاق، ودعوات تعبر فضاء وسائل التواصل الاجتماعي للدعاء لمهاجرين للوصول بسلام إلى وجهتهم.
هذا الوطن لبنان ينزف أحبته بصمت، يهربون منه من شدة حبهم له، علّهم يعودون إليه في ظروف أفضل، وحكّام أرحم.
«أسرتي» في كل مكان
علي غندور