تحقيقات
أخر الأخبار

لبنان 2021: بين «طوابير الذل» وأحلام شبابه الضائعة.. ونساء وضعن «أنوثتهن» جانبًا

مما لا شك فيه أن سنة 2021 باتت خالدة في ذاكرة كل من عاشها في لبنان، والأزمات التي حلّت كانت امتدادا للسنتين الماضيتين، حيث واجه فيهما الشعب اللبناني كل المصائب والأزمات التي يمكن أن تمر على البال. فهذا الشعب سرق جنى عمره في المصارف، وبات يتجوّل في منزله المستأجر على ضوء الشمعة إن وجدت، يمرض٠ ويداوي نفسه بدعوة من أمه إن كانت على قيد الحياة، وشهد بأم عينه أرقاماً فلكية لسعر الدولار جعلت راتبه عاجزا عن تأمين الخبز والماء لعائلته، وما زاد الطين بلّة رفع الدولة للدعم عن كل ما يستعمله فقراء هذا الوطن، فكانت سنة 2021 بمثابة تتويج لكل الأزمات وسط غياب حكومي بين الاستقالة والتعطيل وغياب أدنى مقومات الحياة.
كل هذه الأزمات المتلاحقة مرت على اللبناني ثقيلة بوقعها، سأتحدث عن آثارها من الناحيتين الإنسانية والاجتماعية من خلال أحداث حقيقية حصلت تشرح مدى المعاناة، وكيف تحول شباب المجتمع من حالمين بالمستقبل المشرق إلى لاهثين خلف رغيف الخبز، وكيف أصبحت النساء سندا لأزواجهن، والبنات عنصرا منتجا يخفف شيئاً من وقع الأزمة على الآباء.
الحاجة أم محمد
باعت أساورها.. وصنعت الكبب والفطائر!

في ظل الأزمة المعيشية الخانقة، رفضت الحاجة (أم محمد) المشاهدة من بعيد على معاناة زوجها وخلقت سوقا للعمل من منزلها، تقول (بعت أساور يدي واشتريت المواد الأولية اللازمة وبدأت إعداد الوجبات لمن يطلبها، وصنع (الكبب، الفطائر، الخبز المرقوق، ورق العنب..)، وبيعها حسب الطلب، وبعد زيادة الطلب انضمت ابنتها مريم للمساعدة في إعداد الطعام والتنسيق مع الزبائن للحجز وتسجيل الملاحظات والأسعار، وباتت بعض المتاجر في الجنوب يعرضون منتجاتها في البرادات، (أم محمد) كان هدفها مساعدة زوجها، لكنها أمنت له فرصة عمل بعد إقفال المؤسسة التي كان يعمل بها، وأصبح المسؤول اللوجستي لتأمين المستلزمات وتوصيل الطلبات إلى الزبائن.

حنان تزوجت بلا فرحة.. ومستعدة للضراء قبل السراء مع من تحب!

انتظر الشاب محمد سنين طويلة ليفرح بشريكة عمره حنان، وعمل بجد ليؤمن ثمن مستلزمات يوم زفافه وتجهيز منزله كما وعدها، فجاءت أزمة الدولار وضاع كل شيء، يقول محمد (كنت قد ادخرت كلفة يوم زفافي وأدوات كهربائية للمنزل وثمن العلامة (ذهب)، كنت أملك 20 مليون ليرة أي 13 ألف دولار على سعر صرف الرسمي 1500 ليرة، أما الآن فكل هذا المبلغ لا يشتري لي جهاز التلفاز)، وتعبّر حنان (ضاعت فرحة عمري وذلك الحلم الأبيض الذي يتحدثون عنه أصبح الحلم الأسود، تزوجت بلا فرحة الأهل وكأننا نسرق)، وتابعت (الظروف صعبة وأحزن لما حلّ بنا، لكن المهم أنني تزوجت من أحب وسأكون لجانبه كما وعدته بالضرّاء قبل السرّاء).

المعلم.. صار سائق تاكسي!
عمل العم صبحي منذ ريعان شبابه حتى التقاعد مدرسا في دولة الكويت، وعاد إلى وطنه لبنان لينعم بجنى عمره، وبعد أن صادرت المصارف تعويض نهاية خدمته بات عاجزا عن تأمين قوت يومه، فتحول إلى سائق (تاكسي) يركض لتأمين مستلزمات منزله، ويقول العم صبحي “عشت حياتي في الاغتراب (الكويت) ولم أشعر بثقل الحياة وكنتُ اليد المفتوحة لكل المتطلبات من الأهل والأولاد، أما اليوم لجأت لعمل سائق الأجرة لأنني لا أحتمل أن اطلب أو أقبل مساعدة ممن كنت سندهم طوال حياتي، صعبة كتير”.

كشف الدكتورة سوزانا 5 دولارات!
رفضت الدكتورة سوزانا (اختصاصية صحة عامة) والتي تحمل الجنسية الكرواتية السفر إلى أي بلد وفضّلت البقاء في لبنان على الرغم من وصول ثمن المعاينة لأقل من 5 دولارات، وقالت (أعتبر نفسي أقدم خدمة للناس وفي كثير من الأحيان لا آخذ مقابل، ولكثر ما شاهدت من مآسي إنسانية تمسّكت بالبقاء لقناعتي بأنه إذا رحل جميع الأطباء لن يكون لهؤلاء الفقراء من يداويهم ويرحمهم).
ويقول الدكتور أحمد (اختصاصي قلب وشرايين): (لا بد من البقاء فقد تعبت من السفر طيلة 13 سنة، يجب أن أكوّن نفسي بين أهلي ومجتمعي، وأفيد المرضى من علمي وخبرتي التي كونتها في الخارج مع العلم بصعوبة الظروف، الأزمة على الجميع والقادم أفضل إن شاء الله).

الشراء بالآلاف.. ونسيان زمن الكيلو!
فيما قبل كان اللبناني يفتح براد بيته فيقع في حيرة ماذا يأكل من فاكهة وخضار ودجاج ولحوم، أما اليوم فبات المشهد متشابها في معظم المنازل، عبوات المياه -المعبأة من مياه الدولة غير المكررة- تحتل الرفوف، وربطة خبز وقليل من الخضار، والبيض لمن استطاع إليه سبيلا بعد أن وصل سعر الكرتونة إلى 75 ألف ليرة بعد أن كانت قبل الأزمة 4 آلاف ليرة. ولن نتحدث عن الدجاج واللحوم لأنهما أصبحا من المحرمات عند أغلبية الشعب نسبة للأسعار الخيالية. وتقول (أم سعيد): “أصبحت كل الطبخات خالية من الدسم، وإذا غلطت شي مرة واشتريت لحمة فأصبح الشراء بالوقية ونسينا زمن الكيلو”.

في المستشفيات الوضع بين (في الله).. و(الله أدرى)!
تكاد حالات الموت تتكرر على أبواب المستشفيات، فقبل أن ينظروا في مدى خطورة حالة المريض يطلبون مبالغ كبيرة من فقراء معدمين، فيقع أهل المريض في أزمة لا يدرون ما العمل، تقول خديجة (الحمد لله أنا بعت صيغتي (ذهب) لأدخل أمي المستشفى بعد وعكة صحية، هناك آخرون يقبّلون الأيادي ليتعالجوا ولم يفلحوا)، لكن الوضع عند الشاب الطرابلسي كان مختلفا بحيث خسر طفله الرضيع على باب الانتظار ولم يقبل أن يتحدّث بشيء عن معاناته واكتفى بالقول (في الله).
يخرج العم (أنيس) من شقّته في الطابق التاسع عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل حاملا عكازه وبخطوات ثقيلة يجر نفسه للوصول إلى الشارع ليستقل تاكسي للذهاب إلى المستشفى لغسيل الكلى، وعند سؤالي له لماذا تذهب بهذا الوقت المتأخر من الليل قال (يا ابني غسيل الكلى يبدأ الساعة الثامنة صباحاً، وفي هذا الوقت لا يوجد اشتراك كهربائي في البناية، فانطلق فجرا وانتظر أمام المستشفى). وشرح العم أنيس، (أولادي يعملون ليلا ونهارا لتأمين كلفة غسيل الكلى وبت أخجل من أن أحملهم عبئا إضافيا باصطحابي إلى المستشفى، ولو كنت استطيع أن أصل مشيا لما استقللت التاكسي لأخفف عنهم، لكن الله أدرى).

الأسعار طارت بعيداً.. فوق الفقراء!

أطلقت الحكومة اللبنانية ضربتها القاضية على شعبها برفعها الدعم عن كل شيء من المحروقات إلى الدواء، حليب الأطفال، المواد الغذائية، الطحين للخبز واللائحة تطول، والأسعار طارت بعيدا عن متناول الفقراء، وعلى الرغم من أزمة الدولار السابقة كان الفقير في لبنان يجد بعض الأصناف المدعومة من الدولة تسد جوعه أو كان باستطاعته شراء الخبز ليأكله. أما البنزين فحدّث ولا حرج، فمشاهد الطوابير الماراثونية تشهد وساعات الانتظار والعمر الضائع من أجل الحصول على بضع ليترات تختصر كل المشهد.

طوابير الذل.. (انت بأي طابور؟)!
احتلت الطوابير مجمل الحاجات الأساسية في لبنان، فبتنا نشهد الطوابير على أبواب الأفران لشراء الخبز، أمام محطات تعبئة الغاز، أمام الصيدليات، الاستهلاكيات، مطاحن البن، البنوك.. تحول لبنان كله إلى طوابير من كل حد وصوب وبات أحدهم يتصل بالآخر ويسأله (انت بأي طابور؟)، لكن هذه الطوابير تعتبر نقطة في بحر طوابير محطات الوقود.
المشهد كان متشابها في كل المناطق اللبنانية، البنزين شغلهم الشاغل وجوهر حديثهم، والمشاهد التي حصلت لم يسبق اللبناني إليها أحد. فقد وصل الحال بالمواطنين للنوم على محطات الوقود ليحجزوا لأنفسهم (دور) ليخففوا من معاناة الغد، وقد وصل طول الطابور لأكثر من كيلومتر، والطابور يمتد على ثلاثة خطوط، بالمحصلة عليك أن تنتظر نهارا كاملا لتحصل على بضع ليترات من (الذهب الأخضر) لتعود إلى منزلك لترتاح وتلتحق بطابور آخر.
وقد حاول البعض أن يكسروا من صعوبة مشاهد الذل في بداية الأزمة عبر تحضير الطعام خلال وقت انتظارهم أو شغل أنفسهم بحياكة الصوف، معتقدين أن هذا الانتظار سيكون ليوم واحد، ومع مضي الأيام بات هذا الانتظار روتينا يوميا اعتادوا عليه، لا بل أصبح من أهم الأولويات، وتوقيته مقدّس.

استطاع طابور البنزين أن يجمعه مصادفة بفتاة أحلامه ويعلن تخليه عن فكرة العزوبية الأبدية

الرجل الستيني.. (لبنان سيعود أجمل)!
انطلاقا من المثل القائل (مصائب قوم عند قوم فوائد) قال عماد (كنت عاطلا عن العمل لسنوات، ونتيجة الأزمة بدأت العمل على دراجتي النارية لتوصيل الطلبات إلى المنازل، والحمد لله شغلي ماشي كتير وصار عندي عمّال)، وتقول ملاك (تخرجت من اختصاص التمريض ولم أجد فرصة عمل، وبسبب الأزمة وهجرة أفراد الكادر التمريضي إلى بلدان الخليج حصلت على فرصة عمل في أحد المستشفيات)، اما نبيه فقصته مغايرة حيث استغل أزمة البنزين لينصّب نفسه تاجرا في السوق السوداء للمادة، وبات شغله الشاغل تعبئة سيارته بالبنزين وافراغها بـ (غالونات) ليبيعها، وعند سؤالي له عن التسعيرة قال (كل زبون له سعر)، مع تأكيده على مراعاة الطبقة الفقيرة والحالات الصحية الطارئة. واستكمالاً لـ (إيجابيات السلبيات)، يقول أحمد (أنا الملك)، حيث استطاع طابور البنزين أن يجمعه مصادفة بفتاة أحلامه ويعلن تخليه عن فكرة العزوبية الأبدية، وقال (كل الناس كانت تفرح عندما يتحرك الطابور، إلا أنا، وهي).

في هذه السنة مرّ على اللبناني كل أنواع الأزمات، فأصبحت الوجوه في الشوارع قاتمة، مليئة بحزن وهم قاتل، تشعر وكأن الناس ضائعة لا تعرف ماذا تريد، الأحلام باتت متطلبات أساسية ورغيف خبز، حبة دواء ومياه، كهرباء، حليب لرضيع جائع، والنساء أصبحن يدا عاملة وسندا لأزواجهن تعملن بشقاء وسرور.

أثناء تجولي على كورنيش المنارة في العاصمة بيروت لفتني رجل ستيني يجلس على المقعد الخشبي حاملا وجها بلا تفاصيل، كل الحركة حوله لا تحرّك صمته، اقتربت منه وسألته بلا مقدمات: (وبعدين يا عم مع هيدا البلد)، فنظر اليَّ نظرة من فوق نظارته أدخلت الخوف إلى قلبي، ولم يقطع هذا الخوف غير التعرجات التي ارتسمت على خديه مع صوت القهقهة وقال (شو شفتو بعد من الأزمات؟ نحنا على أيامنا… وطال الحديث عما عانوه، تابع (ما تهكل الهم بكرا أحسن راح الكتير وبقي القليل)، وعدني أن لبنان سيعود أجمل، وكل هذه الأزمات ستكون قصة سأحكيها لأحدهم يسألني مثل سؤالي ذات يوم. ربما هو محق الغد أجمل دائما.

«أسرتي» في كل مكان
علي غندور

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق