
الرواية دنيا متخيّلة ورحلة نرتحل فيها لنبحث عن وجوه تشبهنا
جمعت بين الطب والأدب والصحافة، إنها د.رشا سمير طبيبة الأسنان التي طافت بقرائها بين عوالم الأساطير والتاريخ والخيال، وربطت بين الماضي والحاضر، من خلال إصدار رواياتها، لتتعمق في تفاصيل المكان وشخوصه، «أسرتي» التقت الروائية د.رشا سمير على ضفاف المعرفة لنفتح معها أبواب التأمل على مسيرتها الإبداعية، وإليكم تفاصيل الحوار:
في البداية، نود التعرف على انطلاقك من توقيع «الطبيبة الأديبة» من الطفولة؟
- هي قصة قديمة منذ أيام الدراسة، كنت أكتب لزملائي في “الأوتوجراف” كلمات أذيلها بتوقيع (الطبيبة الأديبة) وكانوا يضحكون وأضحك معهم، ولكن كان هناك يقين بداخلي أنني سأحقق الحلمين معًا، كنت أحلم بأن أصبح طبيبة أسنان، وفي ذات الوقت تأثرت كثيرًا بالروائيين والكُتّاب الذين كنت أقرأ لهم منذ نعومة أظفاري، مثل أستاذنا نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي، وكنت أتمنى لو أصبحت يوما ما مثلهم، فأنا عاشقة للقراءة منذ الصغر، وترعرعت في بيت كان بمنزلة متحف للكتب، أمي عاشقة القراءة تضع الكتب فوق الأرفف ليزدان بها البيت جمالا، هكذا كنت أتسلل إلى حيوات أبطالها وحكاياتهم، هكذا قدر لي الله أن أحقق الحلمين معا، فأصبحت طبيبة وأديبة، والحمد لله وبفضله تحقق لي النجاح في المجالين.
بنتاي فرح ونور لهما نصيب مؤكد من العرفان فهما كل حياتي وأهم إنجازاتي
«كاتبة تتحرى الدقة، وتبحث عن التفاصيل» من الذي كان وراء هذا النجاح؟
- الحقيقة أن الفضل في نجاحي كان أولًا وأخيرًا لله سبحانه وتعالى الذي جعل التوفيق رفيقي في كل الخطوات، وسهل لي الصعب كلما تصورت أن الطريق وعر بلا نهاية، ومن بعده كان الفضل الأكبر لأمي، السيدة الفاضلة المثقفة التي كانت وما زالت قدوة ومثلا أعلى، تعلمت منها القراءة، وشجعتني على الكتابة منذ نعومة أظفاري، فكانت أول من قرأ محاولاتي الأولى وأنا في الرابعة عشرة من عمري، وما زالت حتى اليوم تهدهدني بكلمات التشجيع كلما قرأت لي مقالا أو عملا أدبيا، كما أنها أول إنسان يطلع على مسودة أي رواية جديدة، وأثق في رأيها وعيني مغمضة، كما أثق بنصائحها كقارئة؛ لأنها بالفعل قارئة نهمة قادرة على نقد وتحليل الروايات العربية والأجنبية، كما أن بنتي (فرح) و(نور) لهما نصيب مؤكد من العرفان فهما كل حياتي وأهم إنجازاتي، ودومًا داعمتان لكل ما أقوم بعمله، حتى أنهما تهتمان بتفاصيل مبادرة “كاتبان وكتاب” التي أقوم بها، وتتابعان معي كل التفاصيل التقنية لبث الندوة على الفيسبوك؛ لأنني لست بارعة في ذلك كثيرا.
حدثينا عن الصعوبات التي واجهتك في كتابة رواية عن الحضارة الأمازيغية التي تملؤها الأساطير.. ولماذا كان هذا اختيارك بالتحديد؟
دعيني أسميها “تحديات” وليست “صعوبات” لأن الكتابة بالنسبة لي شغف، والشغف ليس صعبًا بقدر ما هو تحد كبير ينتهي بابتسامة وسعادة عندما يخرج الكتاب إلى النور، رحلة بطل الرواية (ليوناردو) مرتبطة بالأساطير، لذا فقد كان البحث عن الأساطير المختلفة، وجمعها لكي تضفي كل أسطورة على فصول الرواية سحرا خاصا كان أحد التحديات الحقيقية التي جابهتها حتى تصبح كل أسطورة جزءا مستساغا من الحبكة القصصية، ولا تخل بها، وبفضل الله نجحت الأسطورة في ربط أحداث الرواية والتعريف بحضارات عدة، التحدي الأكبر كان في التواصل مع أهل سيوة وإقناعهم بأنني بصدد كتابة رواية عنهم تحفظ تاريخهم، دخولي بيوتهم وإخلاصهم في إمدادي بالمعلومات كان سببا مهما من أسباب نجاح الرواية.
أما عن اختيار الأمازيغ، فالسبب رحلاتي إلى المغرب في البداية، وتعرفي على الحضارة الأمازيغية عن قرب، وخصوصًا أن لديّ بعض الأصدقاء من المغاربة الأمازيغ، وبقدر حبي للمغرب جاءت فكرة ربط مصر بالمغرب عن طريق وجود أمازيغ أيضا في سيوة، هي فكرة “الاختلاف” فأنا أول روائية مصرية تكتب عن الحضارة الأمازيغية، وفخورة بذلك لأنني في كل عمل أقدمه أبحث عن فكرة مختلفة وموضوع جديد بعيد عن التكرار.
الجميع يبحث عن «المسحورة» ماذا عن كواليس وأسرار رحلتك في هذه الرواية؟
- رحلتي مع كتابة الرواية دامت أربع سنوات، وتخللتها أربع رحلات إلى سيوة، ولم تكن في البداية الرحلة في المخطط، بل بدأت الكتابة، وكنت بالفعل قد انتهيت من مائة وخمسين صفحة، ثم عندما جاءتني دعوة من صديق مهتم بسيوة، ويمتلك عدة فنادق هناك لزيارة كرج سيوة، تبدل الأمر، لأن رؤية العين جعلتني أرى الأمور بشكل مختلف، وأتفاعل مع أحداث الرواية بمنظور التحليل البصري للأشياء، وليس فقط عن طريق البحث، كنت أبحث عن أشياء بدت لي غريبة وساحرة، وأنا أقرأ ما كتب عن سيوة في المراجع، فهناك أساطير وحواديت وأماكن لم يعرفها أحد، ما عرفته من أهل الواحة أضاف كثيرًا لما قرأته عنها، وفي المجمل استطعت تضفير كل تلك المعلومات إلى رحلة طويلة خاضها أبطال الرواية “تاليس”، “ليوناردو”، “رُحيم” و”مبروكة” بشغف وبحذر جعل القراء بحسب ما وصلني منهم يهيمون وراء الأحداث، ويشعرون بسخونة رمال الصحراء، ويلهثون وراء السر الذي يخفيه ليوناردو.
حدثينا عن أهل سيوة، وخاصة المرأة وحياتها، ولماذا يحيطها كل هذا الغموض؟
- الرواية أحداثها تدور في عام 1926، وهو ما يسمى بعام “المطر الكبير” في سيوة؛ لأنه عام تعرضت سيوة فيه لسيول جعلت قلعة “شالي” تتهدم، وهو الحال التي هي عليه اليوم، المرأة في هذه الحقبة الزمنية لم يكن لها وجود تقريبًا، كانت نموذجا يحاكي نموذج “مبروكة” كامرأة، المرأة المنكسرة المغلوبة على أمرها التي سلبها الواقع كيانها، وأبدلها خضوعا وانكسارا، فهي تتزوج رغم أنفها، وتصبح “غولة” حين يموت زوجها، وحين تقع في الحب تصبح مذنبة تستحق القتل.
أما اليوم فالوضع تغير لحد ما، فهناك سيدة فاضلة على سبيل المثال تمثل سيوة في البرلمان المصري، هناك فتيات متعلمات وأسر تهتم بتعليمهن، المرأة السيوية أصبحت تشارك وتتفاعل مع المجتمع، ولكن على استحياء أيضًا، فهي ما زالت لا توجَد إلا في تجمعات عائلية، ولا تخرج للشارع بمفردها، رأيي أن المزيد من الحرية مطلوب لهن، ولكن أحيانًا أقول لنفسي ربما أن حكمنا ونحن من خارج الدائرة لا يمثل من بداخلها، عساهن راضيات بحياتهن، ولا يبغين التغيير.
«حب خلف المشربية»، «معبد الحب».. وغيرهما من رواياتك نرى أن الحب مفهوم حاضر منسجم مع نسيج الرواية فما رسالتك من وراء ذلك؟
”الحب” هو أساس كل شيء، فالأسرة تستقيم لو كان هناك حب وتفاهم بين الأب والأم، المؤسسات ترتقي لو أحب العاملون بها ما يقومون به وأتقنوه، الدول تتقدم بحب شعوبها وإيمانهم بقيمة الأرض.
إذن هو “الحب”..الحب هو من يدفع البشر للنجاح، دعيني أعترف أيضًا بأن هذين الكتابين بالتحديد “حب خلف المشربية” و”معبد الحب” كانا من أول إصداراتي وتزامنا مع تخرجي في الجامعة وفترة الشباب، حين كان “الحب” هو كل دنيانا ومرسانا، الرسالة التي أبغي دائمًا أن أرسلها إلى قراء رواياتي أن الحب هو ما نتنفسه لنحيا، قيمة مهمة لا ينبغي هجوم البعض عليه، ولا ينبغي التقليل من شأنه، والحقيقة أيضًا أن القراء من مختلف الأعمار يميلون إلى القصص العاطفية المغلفة بالرومانسية الحالمة، وحتى في قلب الروايات التاريخية التي أعشق قراءتها وكتابتها تأتي قصص الحب لتجعل المعلومة الجافة أسهل في الهضم وتأثيرها أكثر رسوخًا.
الرواية شكل من أشكال الإبداع ولها سحر خاص
«هذا زمن الرواية» مقولة تردد بين الأدباء، فهل مازال صداها متواجدًا في الساحة الأدبية، أم أن هناك أشكالا أخرى من الكتابة حلت محل الرواية؟
- اعتقادي أن كل الأزمنة هي زمن للرواية.. فالرواية شكل مهم من أشكال الإبداع، ولها سحر خاص لا يفهمه إلا قارئ الرواية، عن نفسي أهوى قراءة الروايات بشدة، وهي اللون الأدبي المحبب إلى نفسي، تتلمذت على أيدي الروائيين الكبار أساتذتنا في مصر، وكانوا قدوتي منذ الصغر، ومنهم امتد عشقي إلى الروائيين الأجانب مثل تشارلز ديكنز، تولستوي، لويزا ماي ألكوت، وحتى مسرحيات شكسبير نظرا لكوني كنت في مدرسة خاصة بالقاهرة، وكان مقررًا علينا كل عام قصة لأحد هؤلاء العمالقة.. وصولا إلى مبدعي اليوم من روائيين وروائيات لهم بصمة على الأدب بقوة مثل إليف شافاق وباولو كويلو وإيزابيل اللندي ونادية هاشمي وخالد الحسيني وغيرهم كثر.
الرواية دنيا متخيلة ورحلة نرتحل فيها عبر الصفحات لنبحث عن وجوه تشبهنا وأحداث لم نعشها ونتمنى لو عشناها في خُطى الآخرين.. لذا فزمن الرواية لن يرتحل ولن يبلى أبدا، زمن الرواية هو كل زمان يحاول فيه الإنسان أن يهرب من قسوة الحياة وضغوطها إلى أماكن أكثر رحابة، ويرتحل في مكانه إلى مدن لم يعرفها.
الحقيقة.. التوفيق بين الكتابة والصحافة والطب لم يكن شيئًا يسيرًا بل هو مجهود مضاعف
يوسف ادريس – محمد المخزنجي – أحمد خالد توفيق جميعهم أطباء جمعهم حب الكتابة وحب المهنة، فهل كان من السهل عليك التوفيق بين الكتابة والمهنة في آن واحد؟
- الحقيقة التوفيق بين الكتابة والصحافة والطب لم يكن شيئًا يسيرًا، بل هو مجهود مضاعف، وخصوصًا أنني شخص أحب التحديات، ولا أرتضي إلا بالنجاح أو بالوصول إلى ما أسعى إليه، لا تزعجني أبدًا وعورة الطريق، الطب كان البداية، ثم استمرت الرحلة وتحقق الحلم، وما زالت المحافظة عليه أصعب ما فيه الطب من دون تذويق أضاف للأدب، وليس العكس، والأطباء مبدعون لطبيعة المهنة، فالأطباء تجمعهم قدرة بديعة على جمع المعلومات، الماجستير علمني كيف أبحث وأجمع معلومات، وعملي في العيادة جعلني ألتقي بمختلف الأنماط من البشر، وأستمع إليهم وأحلل شخصياتهم، بل وأصبحت كل هذه الشخصيات مختبئة في ذاكرتي، استدعيها كلما كنت أبحث عن شخصية ما في رواياتي لأكتب عنها..الطب أرض خصبة للإبداع.
لك الكثير من الروايات التي لاقت صدى كبيرا لدى الجمهور، هل هناك رواية معينة تمثل لك حالة خاصة أو ذكرى معينة؟
- رغم نجاح “المسحورة”، ورغم تعلق القراء برواية “جواري العشق” التي وصلت إلى طبعتها الرابعة عشرة، ورغم كل الحفاوة والنقد الإيجابي الذي لاقته “بنات في حكايات” ستبقى “سألقاكِ هناك” هي ابنة قلبي، وسيبقى “نيلوفر” و”يحيى” بطلا هذه الرواية هما الأقرب إلى أناملي، لأني خلقت الشخصيات من عدم، وأعني بالعدم هنا عدم معرفتي السابقة لإيران وعدم زيارتي لها، وليس لي أصدقاء هناك، وبالتالي لم تكن الشخوص ممن اقتبستهم من حياتي اليومية، ولا يشبهان ملامح أحد، رواية أخذت من وقتي ثلاث سنوات ونصف السنة في الكتابة، وأخذت من وجداني كل العشق لهذه المنطقة التي تمتلك من السحر والحضارة ما لم تمتلكه سياستها، هذه الرواية لم تخذلني أبدًا، ولم يقرأها أحد دون الإشادة بها، فكانت سبب محبة كبيرة بيني وبين جمهوري، وحتى عندنا اُقْتُبِسَت شخصية “يحيى” والخط الدرامي الخاص به بالكامل من قبل سيناريست شهير، واستعان بها في مسلسله دون علمي ولا موافقة الناشر، كان أول من هب للدفاع عنها وعن “يحيى” هم القراء، الذين هم سر قوتي وبقائي، فتحية خالصة من القلب لهم.
الهدوء والقهوة والشمس.. ثلاثية تأسرني
كيف تهربين من فخ «النمطية التي تقتل الإبداع» في كتاباتك؟
- يقيني أن الإبداع “فكرة” وحين يجد الكاتب الفكرة يصبح كل ما بعد ذلك مجرد روتين للكتابة، روتين ليس سهلا بالطبع، ولكن اختيار الفكرة في وجهة نظري هي الخطوة الأصعب والمحك الحقيقي لأي روائي، لذا عندما يسطو كاتب على فكرة آخر، ويرد بأنها تشابه أفكار، لا أجد ما أعلق به، غير أن هذا “سطو مسلح” وليس توارد خواطر، وقد حدث هذا معي أكثر من مرة، كما أعتبر السطو على أفكار الآخرين إفلاسا من أقلام زائفة صنعتها السوشيال ميديا، أحاول دائمًا أن أبحث عن فكرة مختلفة ونمط جديد للكتابة، كتبت أدبا اجتماعيا ونسويا، وساخرا وتاريخيا ولكن الأقرب إلى قلبي هو الأدب التاريخي والكتابة عن التاريخ، أحاول جاهدة ألا أقع في فخ التكرار، وأن أفاجئ جمهوري بجديد لم يتوقعه مني، وأعتقد أن هذا سر الغرام بيني وبين قرائي، فهم يعرفون جيدًا أنهم يستحقون الجديد كلما كتبت؛ لأنهم سبب نجاحي بلا جدال بعد توفيق الله سبحانه وتعالى.
ما طقوس الكتابة في حياة الروائية د. رشا سمير؟
- الهدوء والقهوة والشمس.. ثلاثية تأسرني، أكتب صباحًا وقتما يكون ذهني حاضرا، وليس مستنفذا بعد يوم عمل طويل، أكتب حين أكون في حالة مزاجية جيدة، ولا أستطيع الكتابة وبالي مشغول أو مزاجي غير صاف، ربما لذا يتأثر حجم إنتاجي، فأنا شخص غير عجول، حين يأتي النجاح كتحد، يقيني أن الإبداع ليس محكوما بوقت، وأن النجاح سيأتي وقتما يريد الله سبحانه وتعالى، في يدي فنجان القهوة وأنا جالسة خلف النافذة وأشعة الشمس تداعب مسامي…هكذا أكتب.
نود أن نتعرف على مشروعاتك الأدبية المقبلة.
- أجندتي مزدحمة جدا.. فأنا أتنقل بين الطب والرواية والصحافة والصالون الثقافي والندوات، في محاولة لعمل كل هذه الأشياء معًا، مع محاولة أن تخرج كل المهام على أكمل وجه، أما عن المشروع المقبل فهو بالقطع رواية جديدة، ولكن ما زلت في طور القراءة وجمع المعلومات، لم تتبلور الفكرة بعد، إلا أن نجاح “المسحورة” وضعني في مأزق كبير، لأن النجاح دافع للمزيد من النجاح والتحدي يضع المبدع في محاولة للتفوق على نفسه، أتمنى أن أقدم عملا مختلفًا يستحقه قارئي الذي لا يمل من انتظاري، ويدفعني دائما للنجاح.