أستاذة لغويات تغوص في أعماق التاريخ الانساني الروائيـة د. ريـم بسـيـونـي: رواياتي تنصب على قضيـة الإنسـان نفسـه
تمتلك الكاتبة المصرية د. ريم بسيوني القدرة على النبش في التاريخ وإعادة حكي أسراره، فأستاذة اللغويات في الجامعة الأمريكية، الحاصلة على جائزة نجيب محفوظ، تقدم لنا الشخصيات التاريخية في رواياتها كما لم نعرفها من قبل، تترك السياسة والاقتصاد للمؤرخين، وتهتم بالجانب الإنساني. وتمت ترجمة روايتيها أولاد الناس، وسبيل الغارق إلى الإنجليزية بقلم المترجم الشهير روجر آلان، الذي نقل إلى قراء الإنجليزية في كل مكان روائع أديب مصر العالمي نجيب محفوظ.
«أسرتي» التقت د. ريم بسيوني في حوار للحديث عن أعمالها الأدبية وإليكم الحوار:
د.ريم بسيوني كيف دخلت عالم الأدب، وهل تجدين نفسك أكثر في الأدب أم التدريس الأكاديمي؟
- دخلت عالم الأدب في سن الثانية عشرة من عمري، وكتبت أول رواية، وكنت دائمًا أتشوق إلى أن أصبح روائية ودخلت قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، مما أتاح لي الفرصة لكتابة وقراءة الأدب العالمي والعربي، بعد ذلك تخصصت في علم اللغة الاجتماعي، وهو علم يهتم بعلاقة اللغة والمجتمع، وهذا له علاقة قوية جدًا بالبحث الذي أقوم به للروايات سواء البحث التاريخي أو حتى البحث الاجتماعي، وعلم النفس حتى أستطيع كتابة رواية محكمة، فلم أشعر بأن عمل الأكاديمي الخاص بي لا يتضارب مع الأدب، بل على العكس ساعدني ذلك على القراءة والبحث، كما ساعدني أيضا في الكتابة.
كيف تكتبين العربية بكل هذه البلاغة؟
- من صغري أحب اللغة العربية جدا وأقرأ كثيرا في الشعر والأدب وهي لغة جميلة وغنية، والكتب العلمية أكتبها باللغة الإنجليزية، لكن الأدب أكتبه باللغة العربية.
ما الذي دفعك لكتابة رواية «أولاد الناس» ولماذا جعلتها ثلاثية؟
- لأن هناك مناطق في التاريخ المصري ما زالت غامضة بالنسبة لنا لا نعرف عنها كثيرًا مثل فترة حكم المماليك التي امتدت نحو 267 سنة من تاريخ مصر، وكانت مصر وقتها من أهم الحضارات في العالم، فهناك معارك أدت إلى اختلاف وتغيير في مسار تاريخ العالم مثل معركة ديو البحرية، التي غيرت خريطة العالم، فكان من المهم الكتابة عن آثارها، ودور المماليك فيها وربط الماضي بالحاضر.
والرواية كشفت حقائق تاريخية جدًا من “أولاد الناس” منها الحضارة القوية والمباني الزاهرة التي أقامها المماليك، منها أن هناك مماليك كانوا يخافون على مصر، ويعتبرونها بلادهم ويهتمون بها، ومنها الدور الذي كان يلعبه رجال الدين والعلماء في مصر، ومنها المصريون أنفسهم في عصر المماليك، كيف كانت حياتهم، التجار، الحرفيون، المهندسون، المصري نفسه كيف كان يعيش، رجال الدين “الشيوخ”، “أولاد الناس”، حكام المماليك كيف استطاعوا أن ينصهروا داخل مصر ويصبحوا مصريين، وكان لا بد للحبكة الروائية أن يكون بها تاريخ وفيها خيال، وهذا شيء موجود دائمًا، وإلا لما أصبحت رواية، فإذا كانت توثيقًا للتاريخ لم تصبح رواية فقط، لكنها رواية تتحدث عن شخوص بضعفهم وقوتهم، بحبهم وكرههم، وهذا شيء مهم جدًا في أي رواية.
كتبت هذه الرواية
بعد زيارتي لمسجد السلطان حسن
وقد كتبت هذه الرواية بعد زيارتي لمسجد السلطان حسن عام 2013، وكانت المرة الأولى في حياتي التي أزور فيها هذا المسجد العريق، وعندما دخلت شعرت باتصال روحي قوي بالمكان، خاصة بعد أن سألت عن السلطان حسن، وأدركت وقتها أن أحد سلاطين المماليك أنفق كل ثروة البلاد لبناء هذا المسجد، ثم مات دون أن يدفن فيه، وقضيت بعدها 3 سنوات للدراسة والقراءة عن فترة حكم المماليك والسلطان حسن وقصة مقتله، لأنه كان يفضل أولاد الناس عن المماليك، وقد كان لدي شغف شديد جدًا بكل ما هو تاريخ.
كنت أقوم بعمل زيارات لأماكن الرواية مع القراء
ولماذا تصطحبين القراء لزيارة مسجد السلطان حسن؟
- مسجد السلطان حسن يعتبر هرم مصر الرابع ومن أعظم المباني الإسلامية إطلاقا، وما زال حتى يومنا هذا، فقد شهد المسجد على مدار عصور مختلفة، سواء كانت عصورا فيها سرقة أو بها حروب، أو كانت عصورا بها نهضة قوية جدًا، وذلك كنت أريد أن آخذ مكانًا في مصر مهما، وللأسف الناس لا يعرفون مدى أهميته، وأحاول أن ألفت النظر له، ولذلك كان جزءًا من الرواية أن يزور الناس المكان معي، فقد شعرت بأن هذه الرواية لن تكتمل إلا بزيارة الرؤية مع القراء، ولذلك كنت أقوم بعمل زيارات لأماكن الرواية مع القراء، وبالطبع كان مسجد السلطان حسن في الجزء الأول من الرواية هو حكاية كيف تم بناؤه والمهندس الذي شيده، وفي الجزء الثاني من الرواية يتحول إلى ساحة قتال بين المماليك، وفي الجزء الأخير تتم سرقته عن طريق العثمانيين عندما دخلوا مصر.
ما سر مصطلح «أولاد الناس» ولماذا كان عنوانا لروايتك؟
- مصطلح “أولاد الناس” مهم، فنحن نستخدمه عندما نطلق على أحد أنه من عائلة طيبة، للدلالة على أنه شخص محترم مترب، وهذا المصطلح كان في الماضي معناه “أولاد المماليك” الذين يعرف لهم أب وأم، فالمماليك أنفسهم لم يكن اسمهم “أولاد ناس” بل كانوا يسمون مماليك، يأتون من خارج مصر مخطوفين، ويظلون في مصر كأمراء أو جنود عندما يتزوجون ويستقرون في مصر يطلق على أولادهم “أولاد الناس” وبعد جيلين أو ثلاثة يُطلق عليهم مصريون، فأولاد الناس معروفون، يستقرون في مصر، ويخرج منهم علماء ومؤرخون مثل ابن إياس وهو من أولاد الناس وابن تغري بردي، وهما اثنان من المؤرخين الذين كتبوا تاريخ مصر، فهما كانا مثقفين جدًا، ولديهما وقت للبحث والقراءة والتأريخ، ولذلك استعملت هذا المصطلح؛ لأننا ما زلنا نستعمله، وهناك بعض الناس يعتقدون أن أولاد الناس هم ولاد المماليك من أب وأم معروفين يولدون في مصر أو الشام.
لماذا اخترت مسجد ابن طولون؟
- يعتبر مسجد ابن طولون أقدم مسجد لا يزال موجودًا في مصر، وأكبر مسجد من حيث المساحة، وحار متخصصو العمارة الإسلامية في روعة شرفات مسجد ابن طولون وفي مغزى العرائس المتشابكة المتضرعة للسماء التي تعلو جدار المسجد، وحتى اليوم لا يوجد مثلها في أي مسجد.
أسند الأمير أحمد بن طولون إلى القبطي سعيد بن كاتب الفرغاني مهمة بناء مسجده، اعتمد “الفرغاني” على الدعائم عوضا عن الأعمدة، وبنى واحدا وعشرين بابًا للمسجد ويحيط بجدران المسجد أربعة مائة وتسعة وعشرون شباكًا، وجعل شرفات المسجد كالعرائس المتعانقة المتصلة التي ترتفع برأسها إلى السماء.
رواية «سبيل الغارق» حالة خاصة جداً في كتابتها
لماذا قلت إن رواية «سبيل الغارق» حالة خاصة؟
- رواية “سبيل الغارق” حالة خاصة جدا في كتابتها، رأيت مشاهدها في عقلي قبل أن أبدأ الكتابة كنت أرى حسن وهو يحمل الشمسية خلف جليلة أثناء ذهابها للمدرسة، وملابسها وطريقة كلامها وشكل حسن، وبدأت الرواية وتملكتني أحاسيس مختلفة جعلت الكلمات تنساب مني على الورق، وهذه الرواية كانت فعلا صعبة في الكتابة ومركبة، وأصعب مرحلة هو توصيل الفكرة بشكل سهل، وفي الوقت نفسه تثير خيال وعقل القارئ للتفكير فيما تحمله، واستغرقت عامين ونصف العام للانتهاء منها.
تناولت قضية التنمر في أكثر من رواية لك وربما أغلبها، لماذا؟
- كتبت عن التنمر بين الطبقات في المجتمع المصري في رواية “أشياء رائعة” عن المرأة الفلاحة “أسماء” التي يحدث لها تنمر من الطبقات الكبرى، حيث تطرد من الشاطئ بسبب ملابسها أو طريقة كلامها، أو أنها من بيئة مختلفة، تنمر من أجل اللون، وتحدثت عنه في أكثر من رواية في رواية “مرشد سياحي” و”أولاد الناس” من خلال “ضيفة وأمها” التي يميل لونها إلى السمار، وتكلمت عنه مرة أخرى في رواية “سبيل الغارق” من خلال حسن، وكان عبدًا لونه أسمر، فالتنمر موجود في مجتمعنا، وأحاول كشفه بطريقة غير مباشرة، وهي طريقة ترى بها مشاعر الشخص المتنمر به، وكيف تكون، ووقتها سنعرف كيف آذينا مشاعر إنسان، وهو ما يجعلنا نعيد التفكير مرة أخرى في طريقة تصرفاتنا، ولذلك الأدب لا يعطي دروسا للناس، لكنه يرصد اللحظة، ويظهر المواقف للقارئ ليشعر بها ويواجه نفسه.
ما أبرز طقوسك في الكتابة؟
- أعطي نفسي تماما للكتابة، ومن الممكن أن أظل 12تساعة أكتب بشكل مستمر، وهذا شيء مهم جدًا، لكنني على درجة اقتناع بالموهبة والإلهام،تفالإنسان إذا لم يمتلك موهبة أو إلهامًا، فمن الأفضل ألا يكتب، فالمرء يحتاج إلى القراءة كثيرًا حتى يصبح كاتبًا جيدًا، ولا يقرأ بلغته فقط أو الكتابات التي اعتاد عليها فقط، بل لا بد أن يجازف ويقرأ أشياء جديدة ومختلفة، ويحاول أن يبتكر.
هل شخصيات رواياتك هي في الأصل حقيقية أم من وحي الخيال؟
- هناك شخصيات حقيقية بالطبع، وأخرى من وحي الخيال كأي رواية، أما القضايا التي أهتم بها بشكل عام في رواياتي فهي قضية الهوية، أيضا أهتم جدًا بقضية الإنسان نفسه، والتعبير بصدق عنه، بضعفه وقوته وغيرته، بنفسه الإنسانية الأمارة بالسوء، التي تتخذ قرارات شجاعة أحياناً، وأحياناً أخرى تتخذ قرارات بجبن، الإنسان بكل تناقضاته، الإنسان الذي من الممكن أن يشعر به قارئ في أي بلد في العالم، سيشعر بأن الإنسان قريب منه، حتى مع أحداث تاريخية مختلفة.
من أبرز الكتاب الذين شكلوا وعيك؟
- الأديب القدير نجيب محفوظ في مقدمتهم، والأديب يحيى حقي، وهما من الكتاب الذين تأثرت بهم وأحببتهم جدًا، أما الكتاب الأجانب فهناك كثير جدًا خاصة من النساء، مثل ايملي برونتي وهي كاتبة بريطانية مؤلفة “مرافعات وذرينج” وجين أوستن وهي روائية إنجليزية صاحبة رواية “كبرياء وتحامل” و”شكسبير”.