الأم المثالية لعام 2017 افترشت الرصيف 8 سنوات لتعيل أبناءها
أمام جامعة القاهرة.. على رصيف يفصل بين اتجاهي الذهاب والإياب جلست امرأة مسنة بسيطة تتدثر بغطاء من الصوف.. تحمل بين يديها كتاب تفسير الشيخ الشعراوي، وبين أحضانها قطط صغيرة تحسبها للوهلة أبنائها.
أخذت من الرصيف بيتا لها منذ ثماني سنوات راضية قانعة.. فعلى الرغم من فقرها وشقائها فإنها تعشق تراب وطنها وتسمو بقيمها من خلال كتب افترشتها وتبيعها لتعيل أسرتها.
لماذا تعيش هذه المرأة على الرصيف؟
وما قصتها؟ وما سر الرضا المرسوم على ملامحها؟
وكيف حصلت على لقب «الأم المثالية» لعام 2017؟
أسئلة كثيرة دارت في أذهاننا قبل أن نلتقيها وتحكي لنا حكايتها وخلاصة 74 عامًا قضتهما في شقاء ومعاناة لأجل أبنائها.
تبدأ إلهام عبد الهادي سرد حكايتها قائلة:
كانت حياتي عادية جدا كأي ربة منزل، لم أكن أعمل وكنا نعيش في ستر إلى أن تعب ابني وبدأت رحلة الشقاء، أصابه فشل كلوي فبعت أثاث منزلي وأثاث منزل أبنائي لدفع تكاليف عملية زرع كلى لابني، والكلية أخذتها من أخيه الأكبر، لكن بعد شهر توفي ابني الأصغر، وأصبح الكبير غير قادر على العمل لأنه يعيش بكلية واحدة، ويعاني من كريزة الكلى ويتلقى العلاج ويقوم بغسيل الكلى، وبالتالي لا يوجد من يعيله هو وأسرته، ثمانية أشخاص أربعة كبار وأربعة أطفال أنا من أعيلهم، لذلك أضطر للعمل 16 ساعة يوميا حتى أستطيع توفير المعيشة الكريمة لهم، فأنا أعمل من الساعة السادسة صباحا إلى الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل وبيتي بعيد، بالتالي كان من الصعب أن اذهب الى بيتي حيث ساستغرق ساعة أو اثنتين في الطريق وكم ساستغرق للعشاء والنوم لاعود في السادسة صباحا، لذلك لم أجد حلا غير أن أنام هنا في مكاني على الرصيف، لأستيقظ في السادسة صباحا حيث يساعدني عمرو ابني في فرش الكتب ونجلس في انتظار رزقنا، وما يرزقنا به الله راضين به.
وتستدرك:
عندما مات ابني الصغير جعلت أخاه الأكبر يتزوج أرملة أخيه فهي فتاة في مقتبل العمر 25 سنة، ولي منها حفيد فلم أشأ ان أحرم من حفيدي لذلك تزوجها ابني وهي الآن تعيش مع زوجته الاخرى وابنائه من زوجته الاولى في نفس البيتت تحبان بعضهما والاولاد يطلقون على الاثنتين لقب ماما والملابس ترصص مع بعض في نفس الخزانة، والطعام يوزع على الكل من نفس القدر، ولا يفرقهما غير الليل حيث تنام كل منهما في غرفتها.
المرأة المصرية ليست ضعيفة وجاهلة ومتخلفة.. وهذه رسالتي لكل من يقول ذلك
أعاني بجلوسي على الرصيف لأنني لا أريد لأحفادي أن يعانوا
حدثينا عن معاناتك بجلوسك على الرصيف.
مهما حكيت لك وتحدثت عن شقائي وتعبي فلن تتخيلي!
وتستطرد قائلة:
عانيت كثيرا من مكتب الحدث حيث كانوا يأخذونني مع الاطفال المتسولين ويضعون الحديد في يدي وأبيت في الحجز، أنا لا اشحت، أنا ابيع الكتب ولا امد يدي لاحد، أنا جالسة بكل شموخ وبكل فخر ابيع، ولان لدي خشونة في ركبتي لا استطيع ان اتحرك من مكاني، فالذي يريد ان يشتري الكتب أطلب منه ان يحضر الكتاب بنفسه ويأتي لأحاسبه، أنا لا أتحرك من مكاني لأتسول، أنا أبيع بكل شرف وكرامة ولست جاهلة فأنا امرأة متعلمة ودرست الفقه والشريعة الاسلامية، وما يحدث يؤلمني جدا فلماذا يأخذونني الى الحجز مع الفتيات المتشردات والسيئات وبائعات المخدرات؟ أنا لا اتسول أنا امرأة محترمة، والمحافظ مشكورا والسيد وزير الداخلية أصدرا قرارا لمكتب الحدث بعدم التعرض لي وسيادة المحافظ أصدر قرارا ببناء كشك لي ليحميني من البرد ومن الشمس ويكون مكانا لي لأبيع فيه الكتب باحترام بدلا من جلوسي على الرصيف.
وتضيف:
محافظ الجيزة وقناة المحور منحاني لقب «الأم المثالية» لعام 2017، بعد أن عرفا معاناتي وما قاسيته لأجل أبنائي وأحفادي، فأنا أعاني بجلوسي على الرصيف لانني لا اريد لاحفادي ان يعانوا.. أعاني ليتعلم أحفادي، وأعيش لأمل واحد ان اراهم يدخلون من هذا الباب (مشيرة لباب جامعة القاهرة).. أنا أحب مصر جدا جدا وفخورة بها جدا، وأحزن عندما يقولون المرأة المصرية ضعيفة وجاهلة ومتخلفة، المرأة المصرية ليست كذلك، فأنا امرأة فقيرة لكنني أبذل قصارى جهدي لأعيل وأعلم أبنائي واحفادي، وهذه رسالتي لكل من يقول علينا متخلفين، أو جائعين أوشحاتين، نحن لسنا شحاتين ولا فقراء نحن اغنياء بعزة أنفسنا وشرفنا وكرامتنا وحب الله سبحانه وتعالى ورسوله، فالفقر فقر النفوس وليس فقر الفلوس.
أبيع كتب الشعراوي وأقرأ كل كتاب قبل أن أبيعه وهدفي أن آخذ بيد الشباب والفتيات لطريق الصلاح
رغم كل تلك الصعاب التي عانيت منها..ما سر الرضا المرسوم على وجهك؟
– ايماني بالله ورسوله، فلا يوجد كتاب أعرضه للبيع الا وأقرؤه أولا واعرف ماذا يحتوي، وأنا أبيع كتب الشيخ الشعراوي وتفاسيره للقرآن لأني غير راضية عن حال البنات والشباب وأحزن عليهم لانهم نسوا ربهم، فعندما أعطي شابًا أو فتاة كتابا ليقرؤوه اشعر انني قمت بامر كبير ومددت يدي اليهم لأخذهم لطريق الفلاح.
لماذا اخترت بيع الكتب الاسلامية؟
– أنا خريجة دبلوم فقه وشريعة اسلامية، أنا لست متزمتة ولكني قارئة في الدين، بدأت ببيع المناديل، لكني رأيت وشاهدت أوضاعًا لم تعجبني، فتيات يرتدين ملابس غير ساترة، فكنت ارغب في عمل شيء يصلح ويهدي هؤلاء الفتيات دون ان اجرح احساسها، فكنت ابيع لها كتابا وان رفضت ان تشتريه كنت اعطيه لها هدية لكن اقسم عليها ان تقرأه، فأنا اعرف ما الذي اقوم به، وبعد اسبوع أجد الفتاة تأتي لي وهي محجبة، وهذا الكتاب الذي اعطيته لها هدية آخذ ثمنه من عند الله فأجدها تأتي لي باضعاف اضعافه وأقبله لأنه رزق من الله ارسله إلى ليس هبة ولا تسولاً، لكن اي اموال بعيدة عن بيع الكتب لا أقبلها.
حصولي على هذا اللقب أزاح الحمل عن كاهلي وشعرت بأنني زرعت شجرة وطرحت
منحني الله سبحانه وتعالى الصبر والرضا لأتحمل 74 سنة من المعاناة
ما الذي شعرتِ به عندما حصلتِ على لقب «الأم المثالية»؟
شعرت ان تعب السنين جاء بنتيجة، فأنا عمري 74 سنة، ولا تتخيلي الحمل الذي حملته على كتفي طوال هذه السنوات، ولا تتخيلي عندما امشي لمسافات طويلة لقضاء حاجتي أو لاتوضأ أو لأصلي التعب
الذي اشعر به ولا املك سوى ان اكلمه (الله)، حتى في نومي اشعر بالتعب، فالرصيف الذي انام عليه كما ترين صغير لا أستطيع أن اتقلب عليه فإذا تقلبت من جهة سأسقط على الأسفلت واذا تقلبت الجهة الاخرى الرصيف يضايقني، فاضطر أن انام على ظهري،
وعندما افتح عيني صباحا يكون وجهي له (الله)، هل هناك احد في مصر يستيقظ و(يصطبح) بوجه الله سبحانه وتعالى،
هذا الصبر والرضا الذي منحه لي رب العالمين ولقب الام المثالية ازاحوا الحمل الذي كنت احمله كل هذه السنوات، شعرت انني زرعت شجره وطرحت.
حلمي أن أرى أحفادي أطباء ومهندسين وضباطًا ليشرفوا مصر
زوجتا ابنيّ طلبتا مني أن يخرجا للعمل.. فرفضت وقلت لهما أنا ملتزمة بابني العاجز
ماذا تتمنين؟
– لي أمل بسيط لانني لن أعيش لاحفادي العمر كله، اتمنى ان يوسع الله في رزقي لأجمع 100 الف جنيه اشتري به ميكروباص لابني ليعمل عليه، أنا اعلم ان الله كبير ولا ينسى احد لكن عندما اموت ليس لهم مصدر رزق آخر..
لكنني واثقة في ربنا ثقة عمياء ولا امشي الا بالتوكل عليه، ونحن لسنا اكثر من أسباب فهو الرزاق العاطي، نحن ليس في نفسنا حيلة، المال ماله،
وان كنت اطلب فاطلب منه هو ان يساعدني لأحقق هذا الحلم لابني وأكون مرتاحة في قبري، فابني عندما يعمل عند احد تأتيه كريزة الكلى فيصرفه صاحب العمل،
وقد طلبت منه ألا يعمل عند احد لأنه يأتي متضايق ويحبس دموعه امام ابنائه فأشعر بالذنب انني اخذت كليته وأعطيتها لاخيه، واشعر ان هذا ما جنيته عليه وعلى ابنائه،
لكنني كنت اتمنى ان اعالج ابني وانت تعرفين غلاوة الأبناء وكنت اتمنى ان انجيه من الموت لكن الله لم يرد، أنا موحدة بالله واعلم انه ذهب لمن هو افضل مني واتمنى من الله ان يجمعني وإياه في الجنة ونعيمها، فهذا قدر الله وانا راضية به،
لكن هؤلاء أحفادي واتمنى ان اؤمن لهم مستقبلهم، فأنا اعمل 16 ساعة لأوفر لهم حياة كريمة، فلا يتخيل أحد ان المرأة التي تعيش على الرصيف تعيل هذه الاسرة بهذا الشكل،
فأنا بالاضافة للدراسة اشتركت لهم في ناد منهم من يلعب كونغ فو ومنهم من يلعب كاراتيه والفتاة تمارس السباحة،
والحمد لله حفيدي حصل على الابتدائية وحصل على الترتيب الاول في مدرسته والثالث على المحافظة، الحمد لله ربنا يكافئني ولن يضيع تعبي هباء.
وتواصل:
زوجتا ابني طلبتا مني ان تخرجا للعمل رفضت وقلت لهما عندما ينقصكما شيء اذهبا لبيت أهلكما، لكنني ارفض خروجهما للعمل رغم أنهما معهما شهادات وإحداهما حاصلة على ليسانس اداب،
لكن ابني العاجز أنا ملتزمة به ولله الحمد كل منهما تجلس في بيتها معززة مكرمة، وشهاداتهما تربيان بها أولادهما، فالمرأة التي تخرج للعمل لن يكون لديها وقت لابنائها أو لزوجها،
وان حاولت ان توازن فإنها ستظلم نفسها ويكون عملها على حساب صحتها ونفسها، فأنا لا اقبل ان تظلم نفسها أو زوجها أو ابناءها مادامت أنا قادرة على توفير متطلباتها وتعيش حياة كريمة فلماذا تخرج للعمل،
ويكفي عندما تطلب مني اي منهما شيئًا اقول لهما لا تطلبا مني اطلبا من زوجكما وما يرزقني به الله اعطيه له لأنه رجل البيت وهو من يصرف على البيت، ومرضه امر الله وامر خارج عن ارادته لكنه رجل بكل ما في الكلمة من معنى.
أحبك يا مصر.. وأنا وأبنائي فدا ترابك
وتختم الأم المثالية حديثها معنا قائلة:
يارب اقسمت عليك بنبيك الغالي محمد واقسمت عليك بنور وجهك الشريف الذي تنشق له الظلمات أن تنصر مصر وتجعلها دائما أبية وشموخة وتحفظ وتنصر شعب مصر من كل سوء أنت الحق وقولك الحق اذا اردت شيئا تقول له كن فيكون واخر دعواي الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.. أحبك يا مصر وأنا وأبنائي فدا ترابك.
أسرتي في كل مكان
مصر – نسرين خورشيد