السفر إلى الذكريات.. عبر مركبات الكلمات
يسافر الكاتب أو الأديب بعيداً ليس فقط إلى المستقبل، بل إلى الحاضر القريب حتى البعيد، كي يلقي نظرة فاحصة على مشاهد من الماضي السعيد أو المؤلم.. الواضح أو المبهم.
يسافر الكاتب أو الأديب وآلته في ذلك الكلمات، فهي أروع المركبات التي تفوق سرعة الصوت وسرعة الضوء، الصوت الداخلي له وهو يكتب لنفسه وللآخرين، والضوء ضوء التنوير الذي يسعى إليه في لحظات منيرة لذكريات الماضي كي يفهمها ونحن معه أكثر وأوضح.
وقد اخترنا لكم في هذا العدد نماذج قليلة من المكتبة الكويتية لكتّاب كويتيين كتبوا بعد أن سافروا الى الذكريات عبر مركبات الكلمات والحروف:
يقدمه: ملاك نصر
«أركان»
لـ «محمد جمال الحواج»
هذا العمل الأول للكاتب تحت عنوان «أركان» له عنوانه الفرعي التعريفي: «كان ياما كان ليس في قديم الزمان روح يقال لها أركان»، وهنا نعرف أن «أركان» رمز لروح كل إنسان، هذه الروح حالها مثير للتأمل، كما يقدمها لنا المؤلف بكلماته قائلا:
«عندما تتنفس الكلمات يلتهب محيطها بالمشاعر، وتهب عاصفة الألحان على الأجواء لتبدأ الثورة، وتنتشر جيوش السيد إحساس في الوجدان، وهذا هو حال أركان من معركة الى أخرى، يحلق بردائه ناشرا كلماته بغموض رسالاته».
من الكتابات بهذه المجموعة:
الورقة، حكاية الحكاية، النجم الزاخر، الملكة المنسية، مشرط طبي وأحمر شفاه، قبر وقبعة تخرج، غاب ظلي، فئران، خالد وراحيل، أخجل، وعظيمة.
ومن النماذج اللافتة بهذا الكتاب:
«مشرط طبي وأحمر شفاه».
عالجت الكثيرين..
أنقذت العديد من الموت
أنشأت مراكز تطوعية وتوعية
حصدت الدروع
نقش اسمي في قلوب الناس
قضيت حياتي بين مشرط طبي، سماعة، وكتب
أسمع الدقات
أقيس الضغط والنبض وآه منك يا نبض
أحسب الوقت
في داخل كل صدر أفحصه قلب
ينقبض بقصة وشكوى وينبسط بألم ومرارة
أحل المشكلة
أدخل إلى غرفة العمليات
أشاهد الطبيب وهو يعطي المخدر للمريض وهو يطمئنه، محاولا تقليل التوتر.
أبدأ عملي.
«الإمتاع في رحلة المُرتاع»
لـ «محمد عبدالله الشملان»
في هذا الكتاب يروي الكاتب رحلته التي تُزهر بما تشتهيه الأنفس التواقة للذكريات، حيث يقول:
«كان والدي يدفعني بالعربة نحو برج ايفل بهدوء بعدما هربنا من الباص الأحمر الكبير، رذاذ المطر يتساقط، والناس من حولنا يركضون منزعجين منه، إلا نحن السعداء بهذا الطقس اللذيذ! كانت نسمات الهواء العليلة تداعب نبضات قلبي القلق، وفي عيني الضعيفتين تنام السكينة والكآبة.
لك أن تتخيل: ماذا بعد هذه الليلة؟ هل سيكون الأمل جناحين يرفرفان في سماء روحي المحتسبة؟ أم أنني سأتنفس لوعة المرض وأذوب في سكرة الفراق وأهواله المتتابعة؟ شعر طويل تجرعته في غربة المرض، نمت به على أغصان الحزن، وربما غرد العصفور به أياما، وعلى كلٍّ: استيقظت سعيدا حين صافحت أحضان أمي في مطار الكويت»!
الكتاب له بالفعل مذاق خاص، حيث يخرج بين ذكريات الماضي وتداعيات هذا الماضي على الحاضر.
«كشمير»
لـ «مشاري محمد العبيد»
في هذه المجموعة القصصية، يسافر الكاتب مشاري محمد العبيد الى بومباي، وتحديدا ميناء بومباي في سبتمبر عام 1921، في قصته كشمير، وهو يسافر إليها بأبطاله ولسان حالهم «ها أنا ذا أدنو منك.. أقهر مسافات اللهفة.. أبحر إليك.. حاملا شوق أعوام.. وحديث أعوام.. وبيدي علبة.. تخبئ حُلما طال انتظاره.. اشتقت إلى «سبا»، وكم اشتقت لكشمير»، إنه إذن الحنين إلى الماضي بمدنه وشخصياته.
وفي جزئية بعنوان «نورة»، يعود الى الوراء كثيرا، وتحديدا في أغسطس 1924، ولكن هذه المرة في الكويت وفي نهاية القصة يعبّر عن الشوق المتبادل والحنين مع «كشمير»، فيقول:
«تدري كم اشتاقت لك كشمير، رجوت الصبر أن يعاود التقاط أنفاسه كل مرة.. وإذ بي أجده يموت – فيني – في اليوم ألف مرة. اعتذر إن ضايقتك يا عابر رسالتي هذه، وإن ضايقتك فعلا.. فلا أمانع بأن تضايقني بواحدة، لأطمئن عليك ليس إلا! أحبك، سبا».
وفي قصة «عيون نورة»، يقص علينا قصة «نورة» التي تعود الى عقود من الزمن وقصة لقائها بخالة زوجها.
وفي قصة «ولا نلتقي» يناقش قضية العادات والتقاليد التي كانت بالماضي وتخص الماضي، وأما الحاضر فهو إشكالية أخرى، ويفتتحها بالقول:
«نلتقي بظلال الذكريات بسراب لحظات ما عادت تسعنا، ببقايا أمنيات، ولا نلتقي، نلتقي بالأمكنة التي احتضنت أجسادنا يوماً، يوم كنا نختبئ خلف زيف النظرات».
وفي قصة «زيوريخ وأنا» يكتب مشاري محمد العبيد عن ذكريات الغربة والدراسة.
وفي قصة «موت وميلاد» يتناول إشكالية النسيان للماضي والذكريات نفسها، فيقول في افتتاحية قصته:
لولا النسيان.. لعاش الناس في كفن الحزن والشقاء إلى أجل غير مسمى، ولكن.. ماذا لو عاد الماضي فجأة؟ ماذا لو قفزت ذكرى طائشة من بين صفحات الأمس البالية؟» ونحن بدورنا نتساءل بالفعل.. ماذا لو جاءتنا الذكريات بقوة؟