ترى أن البيت العربيّ ساحر مكانٌ خصيب بالأخيلة الكاتبة إيلاف الريش: أصبحت أطارد الحكايات في المدن!
ترفض أن تحمل الألقاب أو تًوصف بوصف معين.. فهي عاشقة للأمكنة والترحال.. تجد ذاتها في كل ركن تزوره عبر العالم.. لديها قدرة غريبة على إقامة علاقة حميمة مع المكان- أي مكان تزوره.. بل قدرة أكبر على تذكر تفاصيل تفاصيله.. تتمتع بعينين تريان المنسي والمنزوي والمهمل في كل جمال تحط الرحال إليه.. متحيزة بشكل واضح للبيت العربي ولكل ما هو شرقي أصيل.
هي الكاتبة إيلاف الريش صاحبة المؤلفات التي أخذتنا معها فوق بساط الكلمات عبر أجواء ساخرة وبيوت جميلة.. وقد كان لنا معها هذا اللقاء:
جملتك التعريفية على حسابك بالانستغرام تقول: «الحياة من وجهة نظر أدبيّة».. كيف شكلت حياة إيلاف الريش بمنعطفاتها وجهة نظرك الأدبية؟
- أمران أردت دومًا للحياة أن تدور حولهما، الخيال والفن، والخيال والفن هما رافدا الأدب، منذ طفولتي تمحورت حياتي حول القراء والكتب والكتابة والشعر، كان الأدب هو المدخل الذي أرى الأشياء من خلاله، أشكّل الأفكار وأتلمّس الطريق، كبرت وما زلت أؤمن بأن رؤية الحياة من وجهة نظر الأدب هي أرق طريقة لعيشها.
لماذا قررت الجمع بين السفر والكتابة؟
- لم أقرر ذلك، يُخال لنا بأن الإنسان يختار الطريق لنفسه، ولكن في حياة الأدب، الطريق هو الذي يختارنا، الإلهام والشغف يوجهنا، بدأت الكتابة منذ طفولتي وفي مواضيع مختلفة، ولكن أدركت باكرًا أن مذكراتي الطفولية التي دوّنتها حين السفر مع والدي هي أثمن ما كتبته، كبرت وكبر هذا الشغف، أصبحت أطارد الحكايات في المدن، الحكايات التي قرأتها وشاهدتها بالأفلام والتي لطالما رغبت بعيشها وتدوين تجربتي حولها.
أدب الرحلة موغلٌ بالقِدم، ولكن لكلٍ رحلته، السفر يلهمني، تلهمني وجوه الناس وحكاياتهم وبيوتهم، لذلك أسعى خلفها دومًا.
البيت العربيّ صورة عن الجنة.. رهيفٌ شاعريّ!
صدر لك من مؤلفات.. «ذاكرة تصلح للسفر».. ماذا تبقى من ذاكرة ولادة فكرة هذا الكتاب؟ كما أن العنوان لافت.. فكيف تمت صياغته داخلك؟
- اعتدت أن أسافر عبر الذاكرة قبل السفر للمكان، أنبش في ماضيه، حكاياته القديمة، شخوصه الذين غادروا، ذكريات منازله وأزقته ومقاهيه. كل الأمكنة تكون عادية في البداية، حتى نعرف حكايتها وذاكرتها، حينها تكتسب حميمّية خاصة، تبدأ علاقتي بالمكان حين أتعرّف على ذاكرته، هذا ما أفعله حين السفر، وما أحرص عليه حين العودة أن أكون جزءًا من ذاكرة المكان الذي تركته.
أيضا من مؤلفاتك «بيوت تسكنها المدن».. كيف «سكنتك» فكرة هذا الكتاب؟ وماذا غيرت فيك أنت شخصياً؟
- البيت العربيّ ساحر، مكانٌ خصيب بالأخيلة، مكانٌ جميل ولكنه مُهمل، لا يُكتب عنه ولا يُقصد للسكن ولا ينتبه له العرب للتنعّم بسحره، في أسفاري أتخيّر البيوت التي سأسكنها، أبحث عن ملذات البيت العربي المروية في حكايا ألف ليلة، أستكين بجانب البحرة وأصغي لزقزقة العصافير وحفيف الشجر، أتملى في إبداع الحرفيين، الأسقف المنقوشة والجدران الموشاة بالجبس المحفور وزركشات الزليج والبلاط، البيت العربيّ صورة عن الجنة.
لذلك كان كتابي الثاني في أدب الرحلة والبيوت “بيوت تسكنها المدن” محاولة لإهداء المكتبة العربية كتاباً يتغنى بجماليات بيوتها.
يكسر السفر جمود الإنسان يجعله رحيبًا منبسطًا ومنفتحًا على الآخر
كامرأة رحالة.. قمت بالعديد من الرحلات إلى بلاد العالم.. ما المحطة التي توقفت عندها كثيراً لأنها تركت في نفسك أثراً أكبر وأعمق من سواها؟
- في الحقيقة لا أصف نفسي بالرحالة، أحب أن أعيش الحياة كهاوية متخففة من الألقاب، لست رحالة ولا مصوّرة ولكني كاتبة أهوى السفر والتصوير والكتابة، أتبع ما يمليه عليّ قلبي.
المحطة التي تركت في قلبي الأثر الأكبر هي لُبنان، هذا البلد الجميل والمُتعَب، الذي كلما قاوم الظروف للنهوض تعثّر، ولكن جماله يشفع له، أحببت لبنان بكل سخائها وطيبة أهلها، بتنوعها الجغرافي والثقافيّ، أحببت فيها الترحاب والحفاوة والذوق العالي الرفيع.
«السفر» .. كلمة من حروف بسيطة لكنها قد تعني الكثير جدا وليست مجرد تغيير الأجواء.. ماذا غيًر فيك السفر؟ ماذا أضاف؟ ماذا حذف من ألم أو معاناة أو أي شيء آخر؟
- السفر قرّبني من الناس، فتّح بصائري على روافد جديدة للجمال، أذاقني مذاقات ما كنت أتخيل يومًا بأنني سأتذوقها، جعلني أتحدث بلهجات مختلفة وأستمع لموسيقى متنوعة وأسعى على الدوام للبحث عن جديد.
يكسر السفر جمود الإنسان، يجعله رحيبًا منبسطًا ومنفتحًا على الآخر.
«البيوت».. كلمة استخدمتها في كتاباتك وفي عنوان لكتابك، ماذا يعني «البيت شخصيا» لإيلاف الريش؟
- البيت يعني الجنة، جنّة المرء في الدنيا، عائلته، ذكرياته، مسرح حياته ومتحفه الشخصيّ، مساحته الحميمية في هذا العالم الشاسع.
كتبت في احدى مدوناتك «الدور العربية مشيّدة بشاعريةٍ مُفرطة وإحساس مُرهف».. ماذا توحي لك «البيوت العربية»، وماذا تختلف عن البيوت الغربية؟
- الأجداد على امتداد خارطة البلاد العربيّة حين شيّدوا دورهم استوحوا وصفها من آيات القرآن، زرعوا فيها الأشجار المثمرة لتكون قطوفها دانية، وشقوا فيها مجاري للمياه
لتكون محاكاةً للجنة التي وصفها الله بأنها تجري فيها الأنهار، فتحوا سقف الفناء ليتصلوا بالسماء، بالقمر والنجوم والغيوم، البيت العربيّ بيتٌ رهيفٌ شاعريّ.
كانت النساء في السابق يقضين جل أوقاتهن في المنزل، فكان لا بد من إثرائه بالجمال والفن حتى تُطاق الحياة بين أسواره.
تختلف البيوت العربية بلينها ورحابتها، تنوّع الفنون فيها، ومهارة الصانع الذي أنتجها، تزويق الخشب وحفر الجبس ورصّ الزليج وفرشها بالزرابي والبُسط والسجاجيد، إروائها بالماء وإحيائها بالشجر.
كتبت مقالا بعنون: «بيت ستي ومطبخ نجلا: إحياء ذكرى نكهات الجدة».. حدثينا ولو قليلا عن جذورك؟ عما نقشه الأجداد والأهل والأرض والتاريخ الشخصي لك.
- بيت ستي هو بيتٌ في العاصمة عَمّان، افتتحته السيدة ماريا حداد لإحياء ذاكرة نكهات جدتها وطبيخها، عاشت ماريا في الخارج، وحين عادت راعها أن يوصد باب بيت الجدة، ومطبخها تحديدًا، لذلك افتتحته واستقبلت الضيوف فيه، الذين يعيدون إحياء تلك النكهات عبر تعلم طريقة طهّيها وفقاً لتعاليم وطقوس الجدة الراحلة.
أما جذوري فهي التي تمدّني بالحياة التي أعيشها اليوم، في طفولتي ارتبطت جدًا بجدتي، وفي كتبي ذاكرة تصلح للسكن، وبيوت تسكنها المدن، استدعيت الجدتيّن من الذكرى، ودوّنت بعض التفاصيل ومنمنمات الحياة التي كانت تسكن في بيوتهن.
الكويت.. ماذا تركت فيك من أثر؟
- قلت مرة إن في سعيك لاستكشاف العالم، يفوتك أن تري وطنك، تبدو الكويت كبلدٍ حديث يبدّل وجهه باستمرار، يجنح للحداثة والعمران والأبنية المتطاولة، ولكن، حيث أنتمي لمدينة الكويت، وحيث يقع منزلنا في قلب العاصمة، ألامس يوميًا الوجه العتيق والذي أحب لهذا الوطن، أحب الكويت جهة الساحل، بقايا البيوت الطينية القديمة، قصر السيف وقصر نايف، سوق المباركية، نقعة المراكب القديمة والوجوه المعتّقة للشياب على مقاعد مقهى الدلالوة.
مشروعك القادم في السفر والترحال.. والكتابة؟
- الكتابة لحوحة، يصدر أحدنا كتابًا فيظن أنه قد أفرغ ما في رأسه، ولكنها تظل تلاحق الكاتب، كما أن الحياة مُلهمة، لم أخطط بعد للكتاب القادم، ما زلت في نشوة إصدار الكتاب الجديد ” بيوت تسكنها المدن “.
كلمتي للقرّاء:
المُدن العربية ثرية جميلة وملهمة فلتكن على جداول رحلاتكم!
كلمة أخيرة لك.
- شكرًا لكم على هذا اللقاء، وكلمتي للقرّاء هي أن المُدن العربية ثرية، جميلة وملهمة، فلتكن على جداول رحلاتكم.