خان الخليلي شاهد على تحديها لحرفة الرجال.. عـزة فهـمـي.. حدوتة مصرية بداياتها سوهاج وذروتها العالم
من خان الخليلي.. بدأت مع الرجال.. على أيدي أمهر الحرفيين كي تستلهم إبداعاتها منهم
لم تكن رحلة مصممة المجوهرات العالمية عزة فهمي بالسهلة أو البسيطة كما يتصور البعض بل كانت رحلة شاقة محفوفة بالصعوبات والتحديات الكثيرة.. فهي أول امرأة تتدرب على صياغة المعادن الثمينة.. كما كانت أول من اقتحم هذه المهنة التي كانت مقصورة على الرجال فقط لتصل بها إلى العالمية.
من خان الخليلي.. بدأت مع الرجال!
بدايات عزة فهمي مع هذه الحرفة كانت على أيدي أمهر الحرفيين في ورش حي “خان الخليل” الذي كانت تستلهم إبداعاتها منه، فهذا المكان الساحر يحمل بين طياته نفحات من التاريخ المملوكي الذي استطاعت المصممة عزة فهمي أن تصبغه من خلال مجوهراتها على شكل أحرف ونقوشات من الذهب والفضة لتتزين بها نساء مصر والعالم أجمع. ومن ورشة الحاج رمضان إلى ورشة الحاج سيد تعلمت المصممة الكثير والكثير من تقنيات صياغة المعادن الثمينة يدوياً بكل مراحلها بدءا من عملية برد المعادن ووصولا إلى تصميم المجوهرات.
في سوهاج نشأت وسط العادات والتقاليد المحافظة وعاشت حياة منفتحة تشجع على الإبداع
من سوهاج.. تعيش الحرية والتقاليد المحافظة معاً
لكي نتعرف عن كثب على تلك السيدة المتميزةتالتي فتحت أبواب السعد على الموهوبات اللاتي لحقن بها في العمل بنفس المجال، علينا أن نتعرف أولا على نشأتها في صعيد مصر المستنير كونه كان ملتقى للأجانب العاملين في قطاع استيراد القطن المصري آنذاك. لقد كانت البداية من مدينة سوهاج بصعيد مصر، حيث ولدت فهمي هناك في منتصف شهر يوليو 1944 لأسرة مثقفة، منفتحة وميسورة الحال، فالأب الذي كان يعمل مديرا لشركة تحضير القطن قبل تصديره إلى إنجلترا مصري لأم سودانية، أما والدتها فكانت صعيدية ذات أصول تركية حسب ما سردته المصممة في كتابها الأخير “أحلام لا تنتهي” والذي أعدته بمناسبة مرور 50 عاماً على إطلاق علامتها التجارية، حيث سردت فيه ليس فقط سيرتها الذاتية، بل أيضا جزءا مهما من حياة المصريين في تلك الفترة الزمنية.
وعلى الرغم من كون والدتها من تلك المدينة ذات العادات والتقاليد المحافظة، فإنها كانت تعيش حياة منفتحة، حيث كانت تلعب التنس في أحد نوادي المدينة، بل وكان لدى الأسرة حمام للسباحة داخل المنزل.
عاشت الفتاة طفولة سعيدة، فوالدها كان رجلا قارئا اعتادتأن يقرأ لها يوميا ما لديه من كتب سواء بالعربية أو الإنجليزية التي كان يتقنها، وتقول: كان دائما ما يصطحبنا إلى رحلات في قلب الصعيد لزيارة المعابد والأديرة وأصدقائه من أعيان البلد، وأيضا الفلاحين، وهو ما كان له عظيم الأثر على حياة المصممة الاجتماعية والفنية لاحقا.
من أم درمان.. الجين الوراثي في العائلة.. تجاه المجوهرات
ولم تكن فهمي شديدة التعلق بوالدها فقط، بل أيضا بوالدتها، حيث ذكرت أنها كانت تعشق جدتها كثيراً لكونها “إنسانة جميلة وبسيطة”، وقالت من المفارقات الغريبة في حياتها أنها اكتشفت عندما زارت السودان بلد جدتها بعد خمسين عاماً أن الأخيرة تنتمي إلى قبيلة أم درمان التي كان يعمل بها 24 من قادتها في مجال المجوهرات أيضا وكأنه “جين وراثي” في العائلة.
من حلوان.. تدهور الحال.. والتأقلم مع الأوضاع!
في عمر الثالثة عشرة اضطرت أسرة فهمي إلى الانتقال إلى حي حلوان بمدينة القاهرة بعد أن توفي والدها وتدهورت حالتهم المادية وكان لزاما عليهم أن يعيشوا حياة أكثر تواضعا تماشيا مع الأوضاع الجديدة، التحقت عزة بمدرسة “حلوان الثانوية” ومن ثم كلية الفنون الجميلة وبعد تخرجها في منتصف الستينيات عملت في هيئة الاستعلامات لمدة ثماني سنوات كانت هي المسؤولة في ذلك الوقت عن النشرات السياسية وأغلفة الكتب التي تميزت فيها.
من القاهرة.. المجوهرات الأوروبية في العصور الوسطى.. كتاب لإلهام جديد!
لا تعتقد المصممة كثيراً بفكرة المصادفة، بل تؤمن بأن لكل شيء سببا، وهذا بالفعل ما حدث معها حين كانت في زيارة لمعرض القاهرة للكتاب عام 1969 وقعت عيناها على كتاب ألماني يتحدث عن فن المجوهرات الكلاسيكية الأوروبية في القرون الوسطى، فقامت بشرائه فوراً رغم ارتفاع سعره في ذلك الوقت مقارنة براتبها الشهري.
ورغم عدم إلمام المصممة باللغة الألمانية، إلا أنها اعتبرت ذلك الكتاب بمنزلة إشارة لها للتوجه إلى مجال تصميم وصناعة الحلي والمجوهرات، على الرغم من كونها مهنة كانت مقتصرة في ذلك الوقت على الرجال فقط، فإنها اعتبرتها نوعا من التحدي، خصوصا أنها كانت تشعر بأن شيئا ما ينقصها وتحتاج إلى ملء ذلك الفراغ.
توبعد أن كانت تفكر في الالتحاق بكلية الآداب لتحصل على شهادة في قسم الفنون التطبيقية بعد حصولها على شهادة البكالوريوس في هندسة الديكور، عدلت فهمي عن رأيها وقررت أن تقتحم عالم المجوهرات وأن تبدأه من أوله، فكانت البداية من حي خان الخليلي الأثري الذي يعج بالآثار والزخارف الإسلامية وعشرات الحرفيين المهرة في مجال صناعة المجوهرات ممن تقبلوا فكرة أن تتدرب لديهم لتتعلم الصنعة.
عكست مجموعتها الأولى «منازل النيل» بعض جوانب أسلوب الحياة المصرية
من القاهرة القديمة.. فن كتابة الشعر على الحلي
تحدثت فهمي كثيرا عن بدايتها الحقيقية، حيث قالت إن رحلتها مع فن الكتابة على الحلي بدأت من ورشة الحاج رمضان، حيث كانت تجلس بجوار شباك صغير يطل على قبة جامع الناصر محمد قلاوون، ورأت أسفلها كتابة أوحت لها بفكرة إدخال النص المكتوب على المصوغات.
وتضيف: عندما رأيت تلك القبة قررت أن أكتب شعرا على الحلي، وقد نالت مجموعتها الأولى التي استخدمت فيها تلك الفكرة إعجابا كبيرا زاد من ثقتها في حسن اختيارها لبدايتها الجديدة.
كانت أشعار ابن حزم الأندلسي وجبران خليل جبران من بين ما صاغته فهمي على حليها البديعة
وكانت أشعار ابن حزم الأندلسي وصلاح جاهين وجبران خليل جبران وجلال الدين الرومي من بين ما صاغته فهمي على حليها البديعة، كما صاغت أفضل أغاني كوكب الشرق أم كلثوم على بعض تصميماتها الاستثنائية التي حافظت فيها على التوازن بين صيحات الموضة العالمية وبين الإبقاء على الطابع الكلاسيكي التقليدي الذي تميزت به العلامة.
وقد عكست مجموعتها الأولى “منازل النيل” بعض جوانب أسلوب الحياة المصرية فيما تخصصت في الاعتماد على الخط في كتابة الأمثال المقولات والأبيات الشعرية.
«قد جمعنا الحب.. فمن يفرقنا»
”قد جمعنا الحب.. فمن يفرقنا” عبارة كتبها جبران خليل جبران، واقتبستها المصممة فهمي، وحفرتها على إحدى مصوغاتها التي اعتبرتها الأقرب إلى قلبها رغم أنها قالت إنها: “أصبحت أكثر نضجا ويمكنني صنع ما هو أفضل”.
ولم تتوقف فهمي عند الحضارة الإسلامية والعربية فقط، بل نوعت من تصميماتها، وأدخلت الكثير من الفنون الأخرى منها الأفريقية والمنغولية والفرنسية والفكيتورية إلى جانب العودة إلى الموروثات الفرعونية التي قدمتها بالفعل، ولكن في وقت متأخر.
توعزت فهمي ذلك التأخير إلى احترامها لأجدادها الفراعنة ولحضارتهم العظيمة التي تعج بالرموز التي حاولت دراستها وفهمها حتى تقدمها بالشكل الذي يليق بها بعيدا عن التقليد الذي يملأ المتاجر وبعض المتاحف العالمية وعملا بمبدأ “نحن لا نقلد نحن نبتكر”.
القلم الرصاص يكسب!
وعلى الرغم من تطور تقنيات الحاسوب الآلي في رسم كل ما تريد من تصميمات المجوهرات والحلي، إلا أن المصممة فهمي تفضل دائماً أن تستخدم الأساليب التقليدية في رسم وتجسيد تصميماتها بيدها وبالقلم الرصاص بعيداً عن تقنيات الحاسوب الآلي الحديثة، عللت ذلك قائلة إن “الحاسوب يُزيل عن التصميم اللمسة الإنسانية”.
السبعينيات أول ورشة والثمانينيات أول متجر
وفي منتصف السبعينيات من القرن الماضي، قدم لها المجلس الثقافي البريطاني زمالة لدراسة تصميم المجوهرات في كلية السير جون كاس، حيث تعلمت نظريات وتقنيات التصنيع وعند عودتها، أسست فهمي أول ورشة خاصة بها بجوار منزل والدتها بمدينة حلوان، وكان معها موظفان اثنان فقط لتكون تلك الورشة هي نقطة البداية العملية لعلامة عزة فهمي التجارية. أما أول متجر خاص ببيع حلي العلامة، فكان في 1981.
استوديو عزة فهمي للتصميم
لم تتوقف إنجازات عزة فهمي عند حد الورشة أو المصنع الخاص بالعلامة التجارية الذي أنشأته لاحقاً في مدينة السادس من أكتوبر، بل إنها أسّست “استوديو عزة فهمي للتصميم” بالشراكة مع مدرسة “الكيميا” للتصميم المعاصر في فلورنسا، وتقدم المدرسة خدمة تعليم حرفة صناعة وتصميم الحلي سواء كتصميم فني أو حرفية التنفيذ وفن التعامل مع الخامات المتنوعة.
توقد أقامت فهمي أكثر من 200 معرض حول العالم، ووصفتها مجلة فوربس الشرق الأوسط في عام 2019 بأنها واحدة من أكثر نساء مصر تأثيرًا، وإحدى أبرز مصممات المجوهرات في الشرق الأوسط.
عزة وفاطمة وأمينة
ولكي يستمر اسم علامة “عزة فهمي للمجوهرات” انضمت ابنتاها للعمل بالشركة التي ترأس مجلس إدارتها المصممة فهمي، بينما تتولى فاطمة منصب العضو المنتدب للشركة فيما تعمل أمينة رئيس قسم التصميم.
وتؤكد فهمي أن قرار انضمام ابنتيها كان قراراً شخصيا بحتا، مشيرة إلى أنهما أضافتا كثيرا للشركة، حيث ساهمتا في تقديم أساليب جديدة للعمل وقال: أنا أصنع قطعا ناجحة، ولكن لا بد من خطة تسويقية واستراتيجية لنصل إلى العالمية، وهذا ما تقوم به ابنتها المسؤولة عن الإدارة، بينما تقدم ابنتها الأخرى كل ما لديها من إبداعات من خلال المجموعات التي تقدمها تحت مظلة الدار.
وتضيف فهمي أن عمل ابنتيها معها ليس بجديد، حيث كانتا تساعدانها طواعية منذ كانتا صغيرتين، لذا فقد تشربتا الصنعة وأصبحتا تقنانها.
متى اكتشفت حب الفضة والشغف بالمجوهرات؟ وكيف أصقلته بالدراسة؟
- بدأت في متابعة شغفي في عام 1969 عندما صادفت كتابًا فنيًا ألمانيًا عن المجوهرات الكلاسيكية لأوروبا في العصور الوسطى في معرض الكتاب المصري، وكانت صناعة المجوهرات في ذلك الوقت مجالًا يهيمن عليه الرجال بشكل كبير، لكن هذا كان تحديًا كنت مصرة على التغلب عليه.
وطرقت على العديد من الأبواب، حتى رحب بي الحاج سيد صانع مجوهرات في خان الخليلي، وقضيت أمسياتي في التعلم مع أحد أساتذة الحرفة الأكثر احترامًا، وفي منتصف السبعينيات من القرن الماضي منحني المجلس الثقافي البريطاني منحة دراسية لدراسة صناعة المجوهرات في بوليتكنيك مدينة لندن.
ماذا عن شعورك وقتها كأول امرأة تعمل في هذا المجال؟
- كان هذا المجال يهيمن ويسيطر عليه الرجال، لكن أيضا كنت أجد الكثيرين يشجعونني، وكان أساتذة الحرفة يشعرون بالسعادة عندما يرون فتاة مثلي خريجة جامعية ومتعلمة ولديها شغف لتعلم تصميم الحلي، وفي ورشة الحاج سيد بخان الخليلي كانت البداية، وتعلمت منه فنون وأسرار صناعة الحلي، وفي البداية كان الأمر صعبا، فكنت أتجه صباحا لعملي الحكومي وانتهى منه في الساعة الثانية ظهرا ثم اذهب لخان الخليلي واعمل حتى التاسعة مساء.
وكيف بدأت مشروعك الخاص؟
- بدأت بورشة صغيرة في حلوان كانت تقع بجانب منزل والدتي وكان معي عامل واحد فقط ثم توسعت إلى ورشة أكبر في بولاق، ومع زيادة الطلب في السوق واحتياجي للتوسع أكثر، ففي عام 2002 قمت بافتتاح مصنعي بالكامل واستوديو التصميم، الذي يضم الآن أكثر من 200 موظف.
وفي البداية كنت أقوم بكل الأدوار من تصميم إلى تسويق وحسابات ووضع خطة.
محطات في حياة المصممة
- في عام 2006، تعاونت عزة مع جوليان ماكدونالد في أسبوع الموضة بلندن، وتلاه تعاون مع برين في أسبوع الموضة في نيويورك في فبراير 2010.
- وفي أوائل عام 2012، عملت مع المتحف البريطاني في معرض االحج: رحلة إلى قلب الإسلامب، حيث ابتكرت مجموعة من 9 قطع.
- تعاونت عزة مع المتحف البريطاني مرة أخرى في عام 2015 في معرضهم مصر: الإيمان بعد الفراعنة.
- في عام 2007، نشرت فهمي كتابا بعنوان امجوهرات مصر المسحورةب، تروي رحلتها عبر مصر لاكتشاف المجوهرات التقليدية المصنوعة والمرتداة في مناطق مختلفة من البلاد.. وفي 2015، أصدرت كتابا آخر بعنوان االمجوهرات التقليدية المصريةب، صدر عن الجامعة الأميركية بالقاهرة أيضا.
- وفي 2017 تم تكريمها من قبل رئيس الجمهورية.
- صممت مجوهرات الفنانات المشاركات في موكب المومياوات الملكية الذي أقيم في 2021.