دراستها في الصين كان لها التأثير الحاسم مع اللغة الصينية يـارا المصـري: الترجمة عملٌ إبداعي.. والأدب الصيني يميزه الشعور بالفقد!
«الإقامة في ثقافة لغة أخرى» هكذا تُعرِف المترجمة يارا المصري رحلة ترجمة الآداب عن اللغات المختلفة، فالترجمة بالنسبة لها شغف شخصي وإبداعي. تترجم يارا المصري الأدب الصيني وتنتقل بين شعره ورواياته وقصصه في سلاسة، لتثري المكتبة العربية بالأدب القادم من الشرق الأقصى، حيث وصل عدد كتبها المترجمة إلى عشرة كتب. وكُلّلت جهود يارا في الترجمة من خلال حصولها على عدّة جوائز كان آخرها جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي العام الماضي. في هذا الحوار تتحدث لنا يارا المصري عن مشوارها مع الترجمة والأدب الصيني ومشاريعها المقبلة:
بدايةً كيف تحب أن تعرف يارا المصري عن نفسها؟
- أعرِّفُ نفسي، بمترجمةٍ متخصصةٍ تعمل في حقل الترجمة الإبداعية من اللغة الصينية إلى اللغة العربية منذ عام 2012، وخلال عشر السنوات الماضية صدرت لي عشرة كتبٍ مترجمة في القصة القصيرة والرواية والشعر. كما حصلت على عدة جوائز، آخرها المركز الأول في جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي العام الماضي، فرع الترجمة عن الصينية، عن ترجمتي لرواية “الحب في القرن الجديد” للكاتبة الصينية تسان شُييه.
ذائقتي الشخصية الأساس الأول لاختيار الأعمال التي أترجمها
ومتى تعرفتِ على اللغة الصينية للمرة الأولى؟
- البداية كانت في عام 2006، حينما التحقتُ بدراسة اللغة الصينية في كلية الألسن بجامعة عين شمس. وما دفعني لاختيارها، كونها لغة دولة صاعدة بقوة في الاقتصاد العالمي، ولغة الحضارة الصينية العريقة، ولغة شعب يصل تعداده إلى مليار ونصف المليار نسمة، ولأنَّني كذلك أتقن اللغتين العربية والإنجليزية، فكانت اللغة الصينية اختيارًا جيدًا وفعَّالًا كلغة ثالثة بالنسبة لي.
كثيرون يرون اللغة الصينية من أصعب اللغات، فهل مَثَّلَ إتقانها والترجمة منها تحديًا لكِ؟
- في رأيي، لا توجد لغة سهلة أو لغة صعبة، وإنَّما تُوجد دائمًا لغةٌ نتعلَّمُها ونتقنُها ونواكبُ تطورها، وبالتالي نصبح قادرين على التعامل معها تحديًا وترجمة، وقد تكمن الصعوبة في اللغة الصينية، في كونها لغة رموز لا حروف كما هو الحال مثلًا في اللغة العربية أو الإنجليزية، لكن مع الدراسة الجادة والفهم العميق لبنية اللغة الصينية، يصبح التعامل معها سلِسًا إلى حدٍّ كبير.
جيل شعراء الثمانينيات في الصين قاد تحولًا حاسمًا في الشعر الصيني المعاصر وشعرهم الأقرب لقلبي
الترجمة جسر ثقافي بين اللغات المختلفة، فماذا تمثل الترجمة بالنسبة إلى يارا المصري؟
- الترجمة بالنسبة لي، شغفٌ شخصي وإبداعي، وأفق رحب للغاية على ثقافة أخرى، وإضافة دائمة للوعي بما هو عليه الإبداع في لغة كاللغة الصينية، بكل ثراء هذا الإبداع قديمًا وحديثًا، والترجمة كذلك مهنة وعمل يومي ومنظم كأي مهنة وعمل آخر، ومصدر سعادة كبيرة، كلَّما ترجمت كتابًا وأضفته مترجمًا من اللغة الصينية إلى المكتبة العربية والقارئ العربي.
وكيف يجيء اختيارك للكتب التي تعملين على ترجمتها؟
- أعتمد أولًا على الذائقة الشخصية، ومحبتي لهذا الكتاب أو ذاك ثم أعتمد على مدى تأثير ما أختاره من كتب في اللغة الأصلية أي الصينية، وإن كنت أركز بشكلٍ عام على الإبداع الصيني منذ فترة الثمانينيات من القرن العشرين الماضي إلى اليوم، أي الحديث في هذا الإبداع، بالإضافة إلى ما أقدِّرُ أنَّ ترجمته قد يكون بالفعل مؤثرًا في القارئ العربي، وإضافة نوعية له من أدب رحب كالأدب الصيني.
وما الخطوات التي تقوم بها يارا في ترجمة العمل الأدبي؟
- أبدأ قبل أي شيء آخر، بقراءة العمل أكثر من مرة، ثم أقرأ ما كُتِب عن العمل سواء باللغة الصينية أو الإنجليزية، وأُجري بحثًا واسعًا عن الخلفيات الثقافية والتاريخية والاجتماعية للعمل. أحيانًا أحدد قائمة أسئلة لصاحب العمل إن كان حيًا، أو لناقد أو مبدع صيني على صلة قريبة بصاحب العمل إن كان متوفيًا، لكي أكون مُلمِّةً إلى حد كبير بأي عناصر تتصل بالعمل الأدبي، ثم أبدأ في الترجمة التي قد تستغرق شهورًا من العمل اليومي حتى أنتهي، ثم أراجع العمل أكثر من مرة بالمطابقة مع النص الصيني.
يكمن تحدي الترجمة الأدبية في استيعاب ثقافة اللغة التي نترجم عنها
يُنظر إلى الترجمة الأدبية باعتبارها من أصعب فروع الترجمة، فما أبرز التحديات التي واجهتكِ أثناء عملك على ترجمة الأدب الصيني؟
- الترجمة الأدبية تشبه ما يمكن أن أسمّيه بالإقامة الثقافية في لغة أخرى غير لغتك الأم، وبالتالي يكون التحدي هو استيعاب ثقافة هذه اللغة الأخرى، وما فيه من إشارات ورموز معرفية وإبداعية وتاريخية وأسطورية، فتصور البشر مثلًا للعلاقة مع القمر أو الماء، ليس هو نفسه في كل الثقافات، واللغة الصينية بوصفها لغة حضارة موغلة في القِدَم، تشكل هذا التحدي في الترجمة، كما أنها مثل كل لغة حية الآن، لغةٌ متغيرة، وبالتالي يجب متابعة هذا التغير، حتى في القاموس اليومي لحديث الناس والصحافة على سبيل المثال، وعلى المترجم من اللغة الصينية أو من أي لغة من اللغات، أن يستوعب كل ذلك، لكي يتمكن في النهاية من الترجمة الأمينة إلى حد كبير للعمل الأدبي القائم أساسًا كما نعرف على سياق مجازي.
كيف ساعدتكِ الدراسة في الصين بمشواركِ في الترجمة الأدبية؟
- في رأيي الشخصي، تجربة العيش وسط الناطقين باللغة التي نترجم عنها، يشكل أهمية كبيرة للغاية في فهم هذه اللغة، وإلى جانب استفادتي الكبيرة من دراستي في جامعة شاندونغ على مستوى فهم بنية اللغة الصينية والنظام الصوتي والصرفي لها، فقد استفدت كذلك استفادة كبيرة من معايشتي للصينيين في بلدهم، والتعامل معهم بلغتهم الأم، وكانت تجربة رائعة للغاية، وذات تأثير حاسم في فهمي ودراستي واستيعابي للغة الصينية.
لكل أدب طابعه الخاص، فما أكثر ما يميز الأدب الصيني؟
- يمكنني أن أقول إن أكثر ما يميز الأدب الصيني، خاصةً الأدب المعاصر هو الشعور بالفقد، وهذا طبيعي للغاية في مجتمع كالمجتمع الصيني، تعرَّض منذ حرب الأفيون في القرن التاسع عشر، وحتى اليوم لتغيراتٍ هائلة وأحداثٍ كبيرة، أعادت وتعيد تشكيل كلَّ شيءٍ في حياة هذا المجتمع وثقافته وموقعه في العالم. والشعور بالفقد هنا يعني البحث الدائم عن معنى يمكن الارتكاز عليه في مواجهة الحياة والعالم والأحداث الدرامية التي مرَّ بها الشعب الصيني، في خروجه من الماضي إلى الحداثة، ومن المجتمع الزراعي التقليدي إلى المجتمع الصناعي والعولمة وقيادة العالم اقتصاديًا وصناعيًا وتجاريًا.
وما أقرب أعمال الأدب الصيني لكِ، وكاتبكِ المفضل؟
- جميع الأعمال الإبداعية التي ترجمتها من اللغة الصينية إلى اللغة العربية قريبة إلى قلبي، ولدي شغف خاص بشعر شعراء الثمانينات في الصين، وهو جيل قاد تحولًا حاسمًا في الشعر الصيني المعاصر، ومن هذا الجيل الشاعر الراحل “خاي زي” الذي ترجمت مختارات من أعماله ستصدر قريبًا في طبعة ثانية مزيدة ومنقحة، وفي خطة عملي أن أترجم أعماله الكاملة.
هل ترين أوجهًا للتقارب أو نقاطَ اتفاقٍ بين الأدبين الصيني والعربي؟
- بالتأكيد جميع الآداب في العالم تملك مشتركات ونقاط اتفاق، بوصفها في النهاية إنتاجًا إنسانيًا يعبِّرُ عن قضايا البشر، وبالنسبة للأدبين الصيني والعربي، فهما أدبان عريقان ولهما تراث حيوي ممتد، وفي أفق الحداثة يشترك الأدبان الصيني والعربي في التعبير عن التغيرات التي لحقت وتلحق بالمجتمعين.
الفوز بثلاث جوائز مرموقة خلال عشر سنوات يمنحني إحساسًا كبيرًا بالثقة في عملي
ما الذي مثَّله لكِ الفوز بجائزة الدولة الصينية وأنتِ أصغر من يفوز بهذه الجائزة، ثم الفوز بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي؟
- الجوائز قوة دافعة، وتكريم لجهدي كمترجمة متخصصة، وتقدير عام لجهد الترجمة من اللغة الصينية إلى اللغة العربية، لجميع المترجمين الشباب الذين يترجمون من اللغة الصينية، وقبل الجائزتين المذكورتين، كنت قد فزت بجائزة أخبار الأدب في مصر عن ترجمتي لرواية “الذوَّاقة” للكاتب الصيني الراحل “لو وين فو”، وأن أفوز بثلاث جوائز مرموقة خلال عشر سنوات، فهذا يعني إحساسًا كبيرًا بالثقة في عملي.
كيف تتلقين ردود أفعال الأدباء والشعراء الذين تترجمين لهم؟
- أتلقى هذه الردود بسعادة كبيرة بالطبع، خاصةً وأن نقاشات تدور بيني وبين من أترجم لهم، طوال مدة ترجمة أعمالهم وبعدها كذلك.
من بين الأعمال المترجمة العديدة التي نُشرت، أيها كان أقربها لكِ؟
- كما أشرت سابقًا، لدي شغفٌ بالشعر الصيني الحديث، ورغم صعوبة ترجمة الشعر بالذات، أكثر من الرواية والقصة القصيرة. وأنظر بمحبة إلى كل كتابٍ ترجمته، وبشكل خاص إلى كتاب “أحتضنُ نمرًا أبيضَ وأعبرُ المحيط” وهو مختارات للشاعر الراحل “خاي زي” وقد صدرت طبعته الأولى قبل سنوات في القاهرة.
مع كل كتاب أترجمه يزداد تعرفي أكثر فأكثر بالثقافة الصينية
بالنسبة لكِ، كيف تأثرتِ بالترجمة والتعرف بعمق على الثقافة الصينية؟
- كما قلت الترجمة تعني الإقامة في ثقافة لغة أخرى غير اللغة الأم، ويؤدي ذلك بالضرورة التعرف بعمق على الثقافة الصينية، سواء ما يتعلق بالإبداع، أو بالطعام أو بالتقاليد وأنماط العيش في الصين، ومع كل كتاب أترجمه، يزداد تعرفي أكثر فأكثر بالثقافة الصينية في تنوعها الهائل وأزمنتها المتعددة.
هل في رأيكِ هناك اختلافات بين ترجمات المرأة وترجمات الرجل؟
- لا أعتقد أن ثمة اختلافات بين ترجمات المرأة وترجمات الرجل، ففي النهاية المرأة والرجل هما “إنسان” يعيش ويكتب ويبدع ويترجم وينتج.
كيف تصفين وضع المترجم في العالم العربي حاليًا؟
- وضع المترجم في العالم العربي الآن مثل وضع الكاتب العربي، وضع سيئ، يتطلب الدعم والمؤازرة، وعملًا مؤسساتيًا يقدم الفرص ويساعد على الترجمة والنشر والتوزيع، لتصل الكتب إلى القارئ ويصبح على اتصال بالثقافات الأخرى في العالم.
ذكرتِ مسبقًا أن شغف الكتابة يستحوذ عليكِ، فهل يمكن أن نراكِ تتحولين من الترجمة إلى الكتابة؟
- لا أعرف إن كنت سأتحول من الترجمة إلى الكتابة أم لا، أو ما إذا كنت سأكتب بالموازاة مع عملي في الترجمة، لكن ما يمكنني قوله والتأكيد عليه، أن الترجمة عملٌ إبداعي في الأساس، إنها ليست نقل نص من لغة إلى لغة، إنها إبداع نص في لغة غير لغة النص الأصلي، مع الحفاظ بالطبع على بناء النص الأصلي وسياقاته وتركيبه.
هل لديكِ مشروعات كتب جديدة ستصدر قريبًا؟
- نعم، قريبًا تصدر لي ترجمة رواية “قاموس ماتشياو” للكاتب الصيني هان شاو غونغ، ويمكن القول إنها رواية فريدة للغاية من نوعها، ليس في الأدب الصيني فقط، وإنما في الأدب العالمي، كما يصدر لي كذلك الطبعة الثانية من كتاب “أحتضنُ نمرًا أبيضَ وأعبرُ المحيط”.
«أسرتي» في كل مكان
داليا شافعي