في الوقت الذي تشرع الدولة اللبنانية زواج القاصرات تلتزم باتفاقيتين تمنعانه.. اتفاقية حقوق الطفل والقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة!
زينب: كان عمري 14 سنة.. أنهيت عامي الدراسي ووضعت حقيبتي المدرسية جانباً ودخلت في عالم الزوجية وأنا في عمر كان يجب أن ألعب مع رفيقاتي في الحي
بعد أن أتذكّر ما مررت به وكيف تحولت حياتي جحيماً باتت لدي الجرأة الكاملة لأتدخل لمنع حصول “جريمة” كهذه!
سارة: كنت 15 عاماً.. بلحظة خسرت حياتي ومحبة عيلتي وصرت وحيدة..أنا فعلت بنفسي كل هذا فليسامحني الله وأبي.. عشقت الشاب أحمد” 20 سنة” وتركت المنزل وذهبت معه إلى منزله!
مريم “17 سنة”: الفقر والجهل فعلا بي هذا
زوّجت من رجل بعمر والدها فوضع حداً لطموحها لأن تصبح معلمة.. والدها زوّجها من صديقه الذي أنقذ رقبته من ديونه.. فكانت مريم كبش المحرقة لخلاص عائلتها!
لطالما كان زواج القاصرات أمرا عاديا في المجتمع اللبناني، بل كانت الفتاة التي لا تتزوج في عمر مبكر أي قبل بلوغها سن الـ 18 يطلق عليها لقب “عانس” وعدم زواجها قبل هذا العمر يشعرها بالنقص ويولّد شعورا عند الأهل بأنها تعاني من خلل ما هو غير موجود في الواقع، فتصبح حملاً ثقيلا، ويتم “وهبها” لأول طالب مهما كان وضعه وعمره، وهنا يتجلّى الظلم للفتاة والجهل لدى الأهل بأبهى صوره.
ومع تطور المجتمع وتطور ثقافة الأهل، باتت هذه العادة منبوذة، وتغير تفكير الأهل بل باتوا يكدون لتعليم أولادهم ويحرصون على أن ينالوا مرتبة علمية تمكنهم من الفخر بهم ذكورا وإناثا. وهنا سنتحدث عن قصص فتيات زوّجن في عمر مبكّر.
زينب “اسم مستعار”
تأخذ زينب نفسا عميقا عند سؤالي لها عن عمرها حين تزوجت، تخرج الحروف ثقيلة من فمها، 14 سنة كان عمري، تضحك وأضحك معها، من دون أن أسألها تقول “باختصار أنهيت عامي الدراسي ووضعت حقيبتي المدرسية جانبا ودخلت في عالم الزوجية، وأنا في عمر كان يجب أن ألعب مع رفيقاتي في الحي”. وتكمل: كنت أعيش في منزل كانت كلمة والدي لا تكرر ولا تكسر، وفي يوم من الأيام جاء والدي ليخبرني بأن ابن الجيران تحدّث معه وطلب يدي منه، ووالدي وافق نظرا لمعرفته به وبأهله، وأنا يجب أن أوافق، وأنا بدوري وافقت لأنني لا أعرف كلمة لا بوجه والدي، وتم النصيب وبدأت مسيرتي الزوجية التي لا أعرف عنها شيئًا، ولم يخبرني أحد حتى أمي التي خجلت وتركتني لمصيري.
منذ اليوم الأول بدأت مسيرة المعاناة، تعبّر بحسرة “فجأة وجدت نفسي في منزل واحد مع شاب” 16 سنة” كنت ألمحه في الحي، حالة من الارتباك أصابتني وأصابته، ومضت الأيام وسط ضياع ورهبة، المضحك في الأمر أنني كنت أنتظر أمي كل يوم لتجلب لي الطعام، وترتّب المنزل، وفي يوم من الأيام زارتني حماتي أم زوجي ووجدت أنني لم أغسل ثياب زوجي وكان جوابي بريئاً “أنتظر أمي”، وهنا بدأت مشاكلي، حيث كانت حماتي تعاملني كامرأة ناضجة، ولم تفهم أنني ما زلت طفلة.
تقول زينب “بعد مضايقات حماتي ومحاسبتي على كل صغيرة وكبيرة، باتت أيامي كلها سوداء، وأنا اليوم أحملها كامل المسؤولية لأنها لم تستوعبني وتعلمني وتعاملني كابنتها، وأنا وحدي، لكن الحق يقال، كان زوجي ومن فرط حبه لي، النور الساطع في أيامي الحالكة وساعدني على تعلّم كل شيء”.
أين زينب اليوم؟
مع مضي الأيام والمواقف الرجولية التي قام بها زوجي، عرفت أن خيار والدي كان عين الصواب إلا أنه كان باكرا، فزوجي اليوم عمل على متابعة أحلامي وطموحاتي، وسمح لي بأن أتعلم مهنة التجميل النسائي، ولم يكتفِ بذلك بل ساعدني على افتتاح متجري الخاص، والآن أدرس اختصاص التجميل النسائي في المعهد ليكون معي شهادة رسمية بالاختصاص.
رسالة زينب للأهل
إنها جريمة بحق الطفولة والإنسانية، وبعد أن أتذكّر ما مررت به وكيف تحولت حياتي جحيما، باتت لدي الجرأة الكاملة لأتدخل لمنع حصول “جريمة” كهذه، وهذا ما حصل مع ابنة صديقتي، فرفضت الموضوع وتدخلت بكل ما أوتيت من قوة حتى أقنعتها من خلال شرحي لها تجربتي، وأقول للأهل “زوّجوا بناتكم ليكنَّ أميرات في منازلهن يزينهن علمهن وأخلاقهن، ولا تزوجوهن أطفالا جهلة تصبح بيوتهن قبورا وحياتهن مصيرا ضائعا”.
سارة “اسم مستعار”
منذ أن بدأتُ حديثي معها عن الظروف التي أدت إلى زواجها المبكر، مشاعر الخيبة تظهر من دون أن تنطق، ودمعة تنزل على خديها قبل أن تفتح فمها، تضع يدها على رأسها وتقول “بلحظة خسرت حياتي، ومحبة عيلتي، وصرت وحيدة، وحيدة حتى لو كل الكون حدي”، تمسح دمعها بطرف قميصها، وتقول “أنا فعلت بنفسي كل هذا ويجب أن أتحمل كل النتائج، فليسامحني الله وأبي”.
انفعالات سارة جعلتني أسكت، وقررت ألا أوجه لها أي سؤال، بل اكتفيت بالصمت والاستماع، بدأت قصة سارة حين كانت في 15 من عمرها، عشقت الشاب أحمد” 20 سنة” لفرط اهتمامه بها، فكان يرافقها في كل تفاصيل حياتها، يتحكم بها مع من تتحدث ومن لا تتحدث، يغرقها بالهدايا والكلام المعسول، يرافقها منذ أن تستيقظ حتى تنام، فباتا كروح واحدة في جسدين، وبعد أن أخبرت والدها بأنها تريد الزواج من أحمد، صُعق الوالد ورفض الأمر مبررا قراره بصغر سن ابنته وأنه يجب عليها أن تنهي تعليمها أولاً، ومنعها من رؤيته أو الحديث معه والتركيز على الدرس لكي تصبح طبيبة حين تكبر، هكذا كان يراها ويتباهى أمام الناس بها..
تقول سارة: لكني هربت إلى أحمد وعشت معه.. ولكني احتجت لأسبوع واحد لأستيقظ من سباتي، تغيرت معاملة أحمد لي، لم أعد أراه كما قبل، بات إنسانا آخر بعد أن وصل إلى مبتغاه”، في هذه الفترة تحديدا اشتقت كثيرا لأهلي، وخصوصاً إلى والدي، وعرفت جيدا كم كنت فتاة عاقة، ولا أنسى دمعة والدي حين جاء ليزوجنا مرغما ليتستر عليّ وأكون ضمن شرع الله.
روت سارة قصتها والدموع تغطي وجهها طوال الوقت، لكنها تبسمت لأول مرة حين ذَكرت والدها، “لم يتركني، حتى بعد أن كسرت كلمته وسرت خلف “طيشي” وحطمت حياتي ومستقبلي بيدي لم يتركني، وبعد أن طلبت الطلاق ساندني وفتح لي ذراعيه بغصة”.
سارة الآن في العشرين من عمرها، تقول “أتابع تعليمي لأحقق لوالدي ما يريد، فقد بات كل همي في هذه الحياة إسعاد والدي وجبر خاطر أمي المكسور، ورويت بعضاً من قصتي لتكون رسالة لكل فتاة، فلا أحد يحبكِ كأسرتك، أسرتي هي ملاذي الآمن دائماً”.
مريم: الفقر والجهل فعلا بي هذا
مريم “17 سنة”، زوجت الفتاة الجميلة مريم من رجل بعمر والدها، زواجها هذا وضع حدا لطموحها لأن تصبح معلمة، وبالنسبة لوالدها تزويج ابنته من صديقه أنقذ رقبته من ديونه التي لم ولن يستطع سدادها، فكانت مريم كبش المحرقة لخلاص عائلتها.
تقول صديقة مريم، لطالما كانت طموحاتها كبيرة، وحلمها أن تكمل دراستها لتغير ظروف عائلتها المادية الصعبة، وكان لها عدد كبير من المعجبين في الحي والمدرسة، إلا أنها لم تعر اهتمامها لأحد وركزت على دراستها، فكان القدر أقوى منها، وزوّجت برجل يكبرها بـ 20 سنة، ولتزداد تعاستها حلّت زوجة ثانية.
تضيف “عانت مريم منذ لحظة زواجها، فقد أُدخلت مرغمة سجنها الزوجي، أستغرب كيف أن صديقتي المقربة تزوّجت وأصبحت أما لطفلة، وتعيش تحت سلطة “ضرتها”، تتحكم بها وتعاملها كخادمة في المنزل، بجسد نحيل وطفولة لم تعشها، أصبحت مريم تحمل مسؤولية عائلة ومنزل، وزوج، والكثير من التعنيف اللفظي والجسدي”.
حال مريم كحال الكثيرين من أبناء بلدتها، حيث رضخ الأهل لحالتهم المادية الصعبة وقرروا مرغمين أو عن طيب خاطر تزويج بناتهن ليتخلصوا من أعبائهن المادية، وهم لا يعلمون جحيم حياتهن، وتبرر بعض الأمهات بالقول “نحن أيضا لم نختر حياتنا بل أجبرنا أهلنا على الزواج”، وهنا تكمن الكارثة الإنسانية والجهل بأبهى صوره.
آفة القوانين
في لبنان لا يحق للفرد شابا أو فتاة أن ينتخب ممثليه في مجلس النواب قبل سن الثامنة عشرة، ولا يستطيع أيضاً أن يستحوذ على رخصة قيادة سيارة، وتحت هذه السن لا يستطيع البيع والشراء والسفر وحده من دون إذن والده، وفي الوقت عينه يسمح للقاصرات بأن يصبحن أمهات ويخرّجن أجيالا للمجتمع، في حين كان الأحرى بهن أن يكملن مرحلة طفولتهن ويلعبن ويتعلّمن.
المفارقة أنّه في الوقت الذي تشرع الدولة اللبنانية زواج القاصرات، تلتزم أيضاً باتفاقيتين تمنعانه، وهما اتفاقية حقوق الطفل، التي وقّعت عليها عام 1990، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، التي وقعت عليها في عام 1997.
مما لا شك فيه، هناك صعوبة في سنّ قانون يحمي الفتيات من كابوس الزواج دون سن الثامنة عشرة لان المشرّع ينتظر إذناً من المرجعيات الدينية للخوض في مشروع يضع حداً لزواج القاصرات، وتبقى النتيجة الأنجح عبر الجمعيات التي تعنى بحقوق المرأة، عن طريق نشر التوعية، ونشر مخاطر هذا التزويج، وعرض قصص الفتيات ومدى موتهن كل يوم، لعل إقناع الأهل ودق باب الوعي عندهم يصبح أقوى من ألف قانون.