شاهد على عصر أُخذت فيه الكويت غدراً الأسير الكويتي ناصر سالمين: داخل كل أسـيـر هناك حكاية صبـر وتضحية كبيـرة
صدقت مقولة «إن المحن تصقل الهمم وإن الشدائد تولد المعجزات».
غزو كلمة من ثلاثة أحرف، ولكنها كرصاصات غدر غرست في قلب العالم العربي. حوارنا مع شاهد على عصر أُخذت فيه كويتنا غدراً، بقي في الأسر 238 يوماً، تجرع مرارة الغزو .. وغدر الأشقاء!، انه الأسير الكويتي ناصر سلطان سالمين عقيد ركن متقاعد، الحاصل على شهادة الماجستير بالعلوم العسكرية.
«أسرتي» التقت ناصر سالمين صاحب كتاب «يوميات أسير كويتي في السجون والمعتقلات العراقية»، وكتاب «عندما كنت أسيرا» والذي عاش تجربة الأسر بكل معاناتها وقسوتها وتنقله مع مئات الأسرى الكويتيين بين المعتقلات العراقية قبل أن يمن الله تعالى على الكويت بالحرية.
حدثنا عن اللحظات التي سبقت الغزو، وأين كانت أسرتك؟
بعد إعلان فشل المفاوضات التي عقدت في المملكة العربية السعودية، بدأت الحشود العراقية من حاملات الدبابات والباصات المحملة بالجنود والآليات العسكرية والطائرات الهليكوبتر لقوات الغدر (فرق الحرس الجمهوري) تتدفق على الحدود الكويتية، كانت حالة الاستعداد مرتفعة بعد الأخبار المتداولة المتسارعة، والتحفت بمعسكر المغاوير يوم الأربعاء ليلا بعد اتصال تلقيته في منزلي من ضابط الخفر ملازم أول بدر الحلاق، حدثني قائلا نقيب ناصر التحق بسرعة، قلت إن شاء الله، وفي هذه اللحظة أسمع أم بدر تقول: خير؟، أقول لها إن شاء الله خير! ودّعت زوجتي وقبّلت أبنائي الثلاثة قائلا كلمة لا أزال أتذكرها ( نشوفكم على خير). وتحركت من منطقة القادسية، ووصلت إلى الدوام بمعسكر المغاوير بالمطلاع، وبدأت التجهيز والاستعداد لتنفيذ أي أوامر تصدر من القيادة.
كيف تم أسرك؟
لم تصمد قواتنا أمام النيران المعادية لكثافتها من البر تارة ومن الجو تارة أخرى، فحدثت إصابات في صفوف قواتنا مما دعانا إلى التراجع، ولم تخمد أصوات الاشتباكات إلا بقذائف طائرات السكاي هوك الكويتية التي قصفت الآليات العراقية المحملة بالجنود والذخيرة، فأشعلت فيها النيران.
ومع مرور الوقت تمت محاصرة المعسكر من جميع الجهات ودخول ضباط عراقيين بمفاوضات مع قائد معسكر المغاوير المقدم ركن أحمد المنيفي بخصوص الاستسلام والخروج من المعسكر، طالبين منا نزع لباسنا العسكري وتسليم أسلحتنا والمعسكر كاملا لهم وهو ما رفضناه جميعا كضباط حفاظا على قسمنا العسكري الذي أقسمناه أمام أميرنا، وخرجنا جميع من معنا في المعسكر ما عدا ضابط صف رفض الخروج من المعسكر لأنه هو من كان يقوم بتوصيل المقدم أحمد وتم أسره معنا.
تنقلنا في معتقلات عدة من «الزبير» إلى «الرشيد» سيئ السمعة وصولاً إلى «بعقوبة»
ثم إلى أين انتقلتم؟
تم نقلنا إلى معسكر حمزة وكان به عدد من الضباط والأفراد، والفوضى تعم أرجاء المكان لكثرة المعتقلين من عدة جنسيات، وبعد عزل الأسرى المدنيين عن العسكريين تم وضعنا في أحد السجون والذي كان يحتوي على غرف صغيرة متجاورة لا يوجد فيها شيء، واستيقظنا على أصوات الجنود العراقيين وهم يقولون لنا ان نستعد لمغادرة السجن إلى مكان آخر، لا نعلم اين ذاهبون، وسارت بنا الباصات إلى أن وصلنا إلى معسكر استخبارات الزبير.
كيف كان يتم التحقيق معكم في الأسر؟
في بداية الأسر كانت هناك محاولات من القوات العراقية لاستمالة الأسرى للتعاون معهم وأخذ موافقتهم على الاشتراك معهم في هذه المسرحية الحقيرة بأن يكونوا أعضاء بالحكومة المؤقتة ولكن دون جدوى، وتعجب العراقيون من هذا الرفض رغم التهديد والوعيد بالإعدام، وكان أول اسم نودي عليه وتم استدعاؤه للتحقيق معه وعرض فكرة مشاركته في الحكومة المؤقتة النقيب عادل العصفور وتلته مجموعة كبيرة من الضباط حيث ازداد الضغط والعذاب عليهم في معتقلهم وسط ظروف صحية غير لائقة بالبشر فضلا عن غياب التغذية الطبيعية أو التداوي وغياب اي اخبار عن الاهل.
كم بقيت في فترة الأسر؟
بقيت في الأسر 238 يوماً، حيث تم الأسر في 3 أغسطس 1990، أطلق سراحنا في ٢٧ مارس ١٩٩١ وعدنا إلى الكويت في ٢٨ مارس ١٩٩١، حيث تم نقلي خلالها انا وباقي الأسرى بين معتقلات وسجون عدة، واجهنا معاناة وآلام البعد عن الوطن والأهل، ولكن صبرنا واستطعنا أن نتحمل تلك الأيام المؤلمة.
حوّلنا غطاء «كنبل» تم توزيعه على الأسرى إلى جاكيت للوقاية من البرد
كيف كنتم تتغلبون على برودة المعتقل؟
كان هناك غطاء عراقي اكنبلب تم توزيعه على الأسرى في معسكر الموصل وهو في منطقة بها البرد قارس، وعندما بدأ يسمح بزيارات الأهالي على فترات متباعدة طلبنا منهم أدوات الخياطة البسيطة حتى تمكنا من خياطة الغطاء على هيئة جاكيت بسيط وغطاء للرأس أيضا.
متى كانت أصعب فترة مرت عليك في الأسر؟
في معسكر رشيد في بغداد، حيث كانت حياتنا في المعتقل فترة قاسية وأياما مريرة بكل معنى الكلمة وتمر الأيام علينا كأنها شهور والساعات كأنها أيام.
الجو كان حارا، في شهر أغسطس ننام بالحديقة والقارص والباعوض منتشر وإن دخلنا المهجع نموت من الحر.
عندما علمنا بقصة الأسير الإيراني .. أصابنا الإحباط
ما المواقف التي تتذكرها في معسكر رشيد؟
معسكر رشيد سيئ السمعة كما يقال، ومن اصعب المواقف عندما قابلنا جنود ايرانيين متواجدين في معسكر رشيد وعددهم يزيد على الالف وباقين في السجن منذ اربع سنوات ونصف وهم لا يتحدثون العربية نهائيا وتحدث أحدهم مع أحدنا بلغته ليقول له انه لا يعلم اي شيء عن اهله او عن العالم الخارجي.
كان لدينا راديو صغير نخبئه في طيات ملابسنا لنعرف الأخبار حولنا
كيف كنتم تعرفون اخبار العالم خارج أسوار المعتقل؟
كان لدينا راديو صغير نخبئه في طيات ملابسنا وأحدنا يستمع للأخبار ويبلغ شخصا آخر وهكذا نتناقل الأخبار ، كما ان من الامور المؤلمة اننا كنا ننتظر قدوم أسير جديد سوف نحزن لقدومه وفي نفس الوقت نفرح لمعرفة الأخبار منه عن الديرة وعن أحوال الأهل هناك.
كيف كنتم تقضون أوقاتكم؟
بعض الضباط كانت لديهم مواهب وخبرة في بعض الأمور البسيطة منها (الحلاقة، التمارين الرياضة، الكهرباء، الرسم) فما عليك إلا البحث عن صاحب الموهبة وتسجيل اسمك لديه وأخذ دور منه مثلا: الحلاق عصراً والتمارين الرياضية الصباح الباكر، وهكذا يمر الوقت الممل لا نعلم ما هو القادم، وقد تتكرر الأحداث نفسها في الأيام القادمة.
وهل استمرت علاقتك برفقاء الأسر؟
بالتأكيد فداخل كل أسير هناك حكاية صبر وتضحية كبيرة تحملها بطريقته الخاصة ومازلنا نلتقي معا في ديوانية خصصناها لنا ونتبادل فيها الأحاديث والذكريات.
من عانى من ويلات الاعتقال والأسر تطارده الكوابيس، فهل هذا حدث معك؟
أتذكر اول يوم نمت على سريري في منزلي وسط ابنائي كنت نائما وأشعر بأنني في حلم لا أريد ان أستيقظ منه وأفتح عيني بحرص خوفاً من ان استيقظ وأجد نفسي مرة اخرى في المعتقل.
فترة الأسر من أصعب الفترات التي عايشتها وعاشها كل أسير كانت خليطا من العذاب والتنكيل والذل، كانت فترة صعبة لأننا كنا لا نعلم ما مصيرنا فرائحة الموت تحيط بنا من كل جانب ولكن من جهة أخرى كان هناك بصيص أمل للنجاة في قلب كل أسير كويتي يدفعه للصبر وانتظار الفرج.
أريد أن تصف لي نظرتك لشباب ولدوا بعد الغزو وتراهم لا يدركون سوى الاحتفال بعطلة التحرير؟
أرى أن دورنا هو توعية هؤلاء الشباب فكارثة الغزو ولّدت لدى الشعب الكويتي أفعالا عظيمة، وفجرت لديه طاقات دفينة مستترة وراء الأرض والاستقرار والرفاه ورغد العيش الذي أنعم الله به عليه.
ومن رحم المحنة ولد بشر جدد، أشداء على العدو، رحماء بينهم يجابهون التحديات التي تمخضت عن العدوان، ويتصدون لها بالفعل الإيجابي، فالصبي تحول إلى رجل فعال يؤدي دوره الحيوي في الحياة اليومية بمجتمع المرابطين، ولم تشغله معاناة الحياة اليومية عن دوره في ملحمة المجابهة والتضحية والفداء.
اتفقنا على الصمود والبقاء صفا واحدا في هذه المحنة والصدمة الكبيرة
حدثنا عن الروح التي كانت بين الأسرى.
إذا كنت تسألين عن نفسية الأسرى فهي في يوم ما ترين نفسياتنا عالية وآخر تجدينها محطمة مثل البحر بالمد والجزر ننتظر اليوم بفارغ الصبر لنعرف الاسماء الذين لديهم زيارة يوم الخميس حيث نطمئن على أخبار الديرة.
ولكننا كنا السند والظهر فيما بيننا، فمن كانت لديهم رُتب عسكرية كبيرة كانوا يظلون الأصغر بالعناية والرعاية، والدعم النفسي، الذي كان بعض السجانون يحاولون أن يحطموا نفسيات الأسرى بكل الطرق، كما وزعنا كأسرى المهام على بعضنا البعض لتنظيم الامور الحياتية وشددنا أزر بعضنا البعض واتفقنا على الصمود والبقاء صفا واحدا في هذه المحنة والصدمة الكبيرة ومحاولة اخفاء هوية بعض الأسرى ممن هم شخصيات عسكرية ومهمة.
ماذا عن حسابك على السوشيال ميديا؟
اقترحت ابنتي لولوة أن يكون لي حساب خاص، وبالفعل فعلت. وكان هناك تفاعل كبير، وفي المقابل هجوم من بعض العراقيين، الذين نجحوا في اتهكيرب حسابي. وأنشأت حساباً آخر.
«عندما كنت أسيراً» يضم قصصاً تُسرد للمرة الأولى لأشخاص منسيين ببطولاتهم
هناك إصداران عزيزان عليك وهما الكتابان اللذان أصدرتهما كيف جاءت لك فكرة اصدار هذين الكتابين؟
كتابي الأول هو ايوميات أسير كويتي في السجون والمعتقلات العراقيةب، والذي ضم أحداثاً وصوراً من داخل المعتقلات، سردت فيه كل ذكريات الأسر رغم وقعها الأليم في أنفسنا كأسرى امتهنت كرامتنا وسلبت حريتنا، ولكن كان لزاما علي إكمال الطريق لأكشف للجميع ما تعرضنا له من ويلات العذاب تحت وطأة جنود الطاغية أما الكتاب الثاني فهو اعندما كنت أسيراًب فهو يضم قصصا تسرد للمرة الأولى لأشخاص منسيين ببطولاتهم، حيث تطرق الى الأبطال الحقيقيين الذين ما زالوا أحياء وهم شهود عيان على الكثير من مجريات وقصص الأسر والمقاومة وما صاحبها من أحداث وحشية وانتهاكات لحقوق الإنسان يندى لها الجبين.
وكل الأحداث التي دونتها في هذا الكتاب نتيجة أمرين، الأول من الزيارات العائلية لذوي الأسرى حيث كانوا يزودوننا بتلك المعلومات عن دور المقاومة الكويتية في الداخل، والأمر الآخر يعود لفترة ما بعد الإفراج عنا وهو اجتهاد شخصي في تقصي الحقائق ومعرفة تلك الأحداث من رجالات المقاومة وأبطالها.
ماذا عن لحظات الحرية من الأسر؟
في معتقل بعقوبة وبتاريخ 13 مارس زارنا الصليب الاحمر وتحدثوا مع كل فرد منا على حدة وسألوه عن رغبتنا في الذهاب الى الكويت وبتاريخ 21 مارس عاد اول فوج من الاسرى للكويت وفي تاريخ ٢٦ مارس وقد صادف وجودنا هناك دخول شهر رمضان وصمنا عشرة أيام في هذا المعتقل واخبرونا ان نستعد للعودة في اليوم التالي وانتقلنا بالباصات الى معتقل الرمادي وتم تبديل الباصات ثم ذهبنا للحدود العراقية – السعودية في منطقة عرعر ولم أكن اصدق نفسي وانا أتنفس نسيم الحرية.